محمد آل الشيخ
الثابت القطعي الذي يفيد اليقين في الأحكام الشرعية هو القرآن الكريم وكذلك الأحاديث المتواتر روايتها عن الرسول صلى الله عليه وسلم. أما أحاديث الآحاد فهي تفيد (الظن)، حتى ولو كان رواتها كلهم ثقات، وصححها علماء الحديث الأوائل في مدوناتهم. وبذلك فإن حديث الآحاد الأرجح أنه قد يكون صحيحا، لكنه لا يرقى إلى القطعي المطلق، لأن صحته تبقى في دائرة الاحتمال القوي، ومتى ما اختلف نصٌ ظني مع نص يقيني، كآية قرآنية محكمة الدلالة مثلا، فالأولى والمنطق أن تأخذ بالنص اليقيني لا بالظني.
إذا اعتمدنا هذا المعيار، واتفقنا عليه، فإن هناك كثيراً من النصوص التي رواها المحدّثون على أنها نصوص صحيحة بمعايير أهل الحديث، لا تكون صحيحة إذا أعملنا هذا المعيار سالف الذكر. مثلا يقول جل وعلا في محكم التنزيل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، غير أن ثمة حديث يتناقض مع هذه الآية تناقضا صريحا من حيث المدلول فحواه (جئتكم بالذبح)، فهل يُعقل أن يجيء بالذبح من أرسله الله (رحمة)؟.. ومتى كان الذبح يفيد الرحمة؟.
وهناك حديث آخر يقولون أنه صحيح، ويبنون عليه (حكم الردة) وفحواه (من بدل دينه فاقتلوه) في حين أن هناك نص قرآني محكم يقول {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، فلا يجوز أن يُكره أحد على الدين الذي يعتنقه، والدين هنا قد يكون الإسلام بدليل قوله جل شأنه {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}، ومعروف في علم الدلالة أن (لا) تفيد النفي، وحينما تدخل على (النكرة) تفيد الإطلاق، كأن تقول عل سبيل الإخبار (لا رجل في البيت) لتكون معناها الدلالي (لا رجل على الإطلاق في البيت)، أي أن الآية سالفة الذكر تعني: (لا إكراه على الإطلاق في الدين) فكيف يستقيم ذلك مع حديث (من بدّل دينه فاقتلوه) والقتل أقسى وسائل الإكراه؟.. كما أن قوله تعالى {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} تعني كذلك التخيير بين الكفر والإيمان، ولم ينص جل شأنه على عقوبة دنيوية، بل أرجأ العقاب إلى الآخرة, إضافة إلى أن عمر رضي الله عنه قد روي عنه أنه كان يرى سجن من غيّر دينه إذا كان فردا وليس قتله).
وفي تقديري أن الضرورة تستدعي أن نُعيد قراءة كثير من اجتهادات السلف، وكذلك تمحيص كثير من الأحاديث التي ورثنا أنها حسب اجتهاداتهم صحيحة بينما يكتنفها كثير من التساؤلات وأهمها كون بعضها أحاديث آحاد ظنية تتناقض مع الآيات القرآنية، التي هي قطعية ويقينية.
وكما قلت في مقال سابق إن كون السلف -رحمهم الله- بذلوا الوسع في اجتهاداتهم، فلا يعني أنهم بلغوا الكمال، وأصابوا كبد الحقيقة، إنما تبقى اجتهاداتهم اجتهادات بشرية، استقوها من واقعهم، وانطلقوا في استنباطاتهم لمراعاة المصلحة الشرعية التي كانت تكتنف ذلك الزمان.
وختاما أعي أن الموضوع حساس وشائك ودقيق، ولكن لا بد مما ليس منه بد.
إلى اللقاء