يستوقفني كثيراً رأي للعالم والمفكر (F. C. Turner) يقول فيه: «إذا ما كنا نريد أن نسيّر كائناً مركباً ومعقداً جداً مثل المدينة، فيجب علينا إنشاء جهاز إداري وتخطيطي وتنفيذي لا يقل عن ذلك الكائن تعقيداً وتركيباً»، وبالفعل فإن إدارة المدن من أكثر المجالات تعقيداً لكونها تتعامل مع بيئة شاملة ومعقدة ومتداخلة وتختص بحياة الناس وبيئتهم المكانية، ولارتباطها أيضاً بالرؤية التخطيطية لمستقبل المدينة وسياسة ضبط التنمية ونمط استعمالات الأراضي وسياسة الإسكان وأداء شبكات البنية التحتية وتحفيز برامج الإنجاز العمراني المتكامل.
هناك وصف معبر يستخدمه متخصصون في الإدارة العمرانية عن المدينة بوصفها «الكائن الحي»، باعتبار ان المدينة تشابه كثيراً دورة حياة الإنسان، فالإنسان في مراحل نموه يحتاج إلى اهتمام دائم ورعاية كبيرة باختلاف نوع ومستوى هذه العناية، وكل ما كبر الإنسان كبرت معه احتياجاته وأعباؤه ومسؤولياته، وكذلك هي المدينة فهي في كل أطوار النمو تحتاج إلى رعاية واهتمام دائم وبشكل مضطرد ينمو طردياً مع نمو المدينة لمواكبة خدماتها ونطاقها الاشرافي.
في رأيي الشخصي أن عدم تجانس وضبط «استخدامات الأراضي» وانخفاض كفاءة وظائفها العمرانية تمثل المعضلة الرئيسة للمدن السعودية، وهذا ما يظهر عملياً على هيئة « مشاكل حضرية» متعددة تؤرق سكانها، وتثقل كاهل إدارة هذه المدن، وترفع من تكاليف مشاريع التطوير وما يرتبط بها من أعمال الصيانة والتشغيل في محاولة « دائمة» من إدارتها للمحافظة على الحد الأدنى لبيئة عمرانية صالحة للعيش وتتوافر بها مقومات الرفاه في ظل التحدي الكبير الذي يواجه مسيري هذه المدن لنقل الضوابط العمرانية التي أقرتها المخططات الإستراتيجية والهيكلية والتفصيلية إلى حيز الواقع، حيث إن عدم إشراك قطاعات المدينة في جميع مراحل التخطيط العمراني يمثل سبباً رئيساً وراء معاناة المدن المستمرة مع كل مرحلة نمو جديدة على مستوى الأحياء والمجاورات السكنية.
على سبيل المثال أعتقد أن من أكبر التحديات التي تواجه التنمية السياحية في المملكة حالياً خاصة داخل المدن، أن « الاستخدام السياحي» بأبعاده الاقتصادية والعمرانية «لم يكن معرفاً وظيفياً» بشكل دقيق وكاف في التشريعات التي أنتجتها المخططات الشاملة والهيكلية للمدن في السابق، بل إنه في كثير من الأحيان كان يخصص كاستخدام معالج للمناطق غير الملائمة للتخطيط أو تلك التي تقع في أطراف المدينة، وكثيراً ما كان يستعاض عنه بالاستخدام الترفيهي، وهذا مفهوم خاطئ وغير مقبول «تخطيطياً»، لذلك لم تتمكن كثير من المدن طوال السنوات التي مضت من تلبية متطلبات التنمية السياحية وتمكينها كأحد المقومات الرئيسة لبناء المدن وتنميتها، وستكون بحاجة إلى تبني قرارات إستراتيجية تحدث تحولاً جذرياً في تركيبة استخدامات المدينة وتستثمر الفرص والإمكانات التي تعزز من مقوماتها التنموية بشكل أمثل.
القرار الأخير لوزارة الشؤون البلدية والقروية بشأن توجيه أمانات المناطق بضرورة التنسيق مع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني عند وضع مشروعات تخطيط المدن والقرى أو توسيعها أو تجميلها أو عند إعداد مخططات المنح، وعدم إقرار مشروعات التخطيط التي فيها أو في نطاقها مواقع آثار أو تراث عمراني إلا بعد أخذ الموافقة من الهيئة، وذلك حسب ما نص في نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني الصادر بالمرسوم الملكي رقم (3/م) وتاريخ 9-1-1436هـ، يمثل قراراً « تاريخياً» هاماً على مستوى التنسيق في حقل تخطيط المدن، ونموذج محتذى لمفهوم الشراكة بين الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ووزارة الشؤون البلدية والقروية، فتخطيط المدن السعودية بات أكثر حاجة إلى قرارات تخطيطية مثل هذا النوع، تضمن مستوى عال من التحكم في إدارتها العمرانية، وتحديث سياساتها، ومنح الأولوية للاستخدامات المؤثرة في اقتصاديات العمران.
م. بدر بن ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن