«الجزيرة» - محمد المرزوقي:
ينطلق اليوم ملتقى «قضايا اللسانيات والأدب في الدراسات المغربية والسعودية «مقاربات ومراجعات» في جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، في الرياض، بكلمة لعميدة كلية الآداب الدكتورة منى الدخيل، تعقبها كلمة رئيسة قسم اللغة العربية الدكتورة هيفاء الحمدان، ثم يلقي الدكتور: عبدالله الغذامي مداخلة حول موضوع الملتقى، لتبدأ بعدها جلسات الملتقى التي تقوم على محورين تندرج تحتهما عدة أوراق عمل، وذلك ضمن إطار عقد الشراكة بين جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن وجامعة محمد الخامس (الرباط) حيث سيعقد ملتقى مشترك بين الجانبين، لمناقشة وتسليط الضوء حول أبرز القضايا اللسانية والأدبية في الدراسات (السعودية/ المغربية) ويشارك به عدد من الباحثين والباحثات من داخل جامعات المملكة ومن جامعة محمد الخامس.
كما سيشهد الملتقى مشاركة كل من: د. محمد غاليم، د.نوال إبراهيم الحلوة، د. صالح زياد، د. سعيد يقطين، د. زهور كرام، د. جمعان عبدالكريم، د. نوال السويلم، د. زكية السائح، د. مختار لزعر، فيما يصاحب الملتقى عقد ورشتي عمل لمدة يومين تقدمهما الدكتورة زهور كرام، الورشة الأولى عن: (استراتيجيات تحليل الخطاب الأدبي). أما الأخرى، فبعنوان: (استراتيجيات تحليل الخطاب الإشهاري).
وفيما يلي نص مداخلة أستاذ النظرية بجامعة الملك سعود سابقا الأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي في الملتقى:
(النظرية بوصفها امرأة)
د. عبدالله الغذامي
في عام 1992 طرحت باربرا جونسون ورقة بحثية بعنوان (النظرية بوصفها امرأة) كان ذلك ضمن التجمع السنوي الذي يقيمه ريفاتير كل صيف في نيوهامبشاير، ومذ لاحظت العنوان في برنامج المحاضرات المصاحبة لحلقات التجمع، أحسست بالحس الذي ينتاب كل واحد منا حين تشعر أن فكرة تسكن في رأسك وتظل ساكتة ولم تتحول إلى كلمات تتساقط على لسانك أو على قلمك، ولا شك أن فكرة كون النظرية أنثى هي فكرة أصلية وجوهرية، غير أنها كانت بحاجة، لأن تقال وستزداد قوة حين تقال على لسان باحثة لها تاريخ في صناعة النظرية، وهي صاحبة الدور الأبرز في إدخال نظريات جاك ديريدا إلى أمريكا قبل أن تبلغ مقولاته أي مبلغ حاسم في موطنه الأم، ومع صعوبات نظريات ديريدا وغرابتها الصادمة حينها إلا أن باربرا جونسون تمكنت من ترويض حالات الاستقبال لها، وحققت الانتشار المذهل وقتها وما زالت.
كانت باربرا بروفيسورة في هارفارد وناقدة نسوية وكنت على رغبة كبيرة بالتلاقي معها، وجاءت محاضرتها لتجعل اللقاء أكثر تحديًا وقوة، وفي تلك المحاضرة وقعت طرفتان معبرتان، أولاهما بسبب انهماك باربرا في طرح فكرتها واستخدامها ليديها بقوة وبسرعة وهي تستعرض أفكارها حيث جرى أن ضربت كأس الماء الملاصق للطاولة فاندلق الماء على ورق المحاضرة، ولكن الكلمات على الورق استطاعت النجاة من الغرق، وظلت قابلة للقراءة وإن غرقت الورقات وتصبب الماء منها ومن حولها، والموقف الثاني جرى حين بدأ النقاش حيث تتابعت المشاركات وفي إحداها لم تستطع باربرا تمييز مكان الفتاة التي توجه السؤال وسط حضور كثيف يملأ كافة كراسي المدرج، وحينها سألت: أي الشفاه تتكلم (whose lips are talking)، فرفعت البنت يدها لتحديد مكانها في القاعة، وهذه حالة تقع كثيراً حين تكون على المنصة ويتسلط الضوء عليك ويبهر عينيك حتى ليحجب عنك الرؤية ويصعب على عينيك تلمس طريقها بين الحضور لتحدد من بين الجمع شخصاً واحداً يتكلم من بينهم، وتحدث لي كثيراً، لدرجة أن أحد الأعزاء في جدة تخوف على صحتي ظناً منه أني بلغت سناً صرت فيها أعشى، وذلك لأني ظللت أظهر حيرتي في البحث عن السائل وأين مقره في القاعة، وتظل حادثة الكأس المندلق هي الأكثر إثارة للتذكر، ولعل امتهاني لطرح محاضراتي شفاهياً مستعيناً برؤوس أقلام تضبط مسار أفكاري هو ما يخفف عندي الخوف من كأس يفسد جو المحاضرة.
توفيت باربرا جونسون عام 2009م ويمر الآن ربع قرن على محاضرتها تلك، ولكننا لن نغفل اليوم عن معانٍ تصاحب اسمها وتستضيفه لتجمعنا هذا، فهي امرأة لها باع عميقة في النظريات النقدية الحديثة، ترجمات وبحثاً وتدريساً وتطويراً، وهي امرأة طرحت مقولة (النظرية بوصفها امرأة) ونحن الآن في جامعة نورة، وهي جامعة نسوية ولقاء اليوم لقاء في النظرية وللنظرية، وهنا تقوم المقارنات النظرية بكل قوتها المعنوية والتساؤلية، وسأطرح بعضاً من أسئلة النظرية في مطلع هذا اللقاء العلمي الذي نتطلع كلنا أن يكون لقاء في الأسئلة وفي فتح مجالات التحول والتوالد والتمدد.
النظرية بوصفها امرأة تعني أن النظرية هي الأداة المتوخاة لكسر النسق الفحولي وطرح الأسئلة النقدية على التصور المهيمن للأنساق الثقافية التي احتكر الرجل فيها الكتابة وعالم النص، إنتاجاً وتأويلاً. على أن تأويل النص وتفسيره وصناعة مفاهيمه ظلت على مدى قرون توجه المعنى باتجاه فحولي يتغلب المعنى الذكوري فيه على أي معنى أنثوي، بل تحرف الأنثوي ليكون درجة أقل، في حين أتت النظرية النقدية الألسنية بكل توجهاتها لتعيد نظام الأسئلة النقدية، وحلت النظرية تبعاً لهذا محل الفلسفة لتكون النظرية هي منطلق السؤال، تبعاً لتحول قطب المعاني من كون الفلسفة أم العلوم لتحل اللغة في موقع متقدم وتكون هي أم العلوم، بما أن اللغة هي الخطاب الفاعل وهي الأداة الصانعة للمعنى الفلسفي، بعد أن كانت الفلسفة هي المعنى الفحولي منذ تولاها أفلاطون، عدو المرأة، وطردها من جمهوريته، وظل هذا هو النسق المتعالي للخطاب الفلسفي، حتى جاءت ثورة النظرية النقدية وقلبت المعادلات، ودخل السؤال المشاغب والمفكك والناقد ليخاتل كل ما استقر من معانٍ. وإن كانت الفلسفة رجلاً يونانياً ضخماً ومتعالياً ويحتكر جمهوريته لطبقة السادة والفحول فإن (النظرية النقدية) هي الثورة المعرفية التي ستتولى إعادة توجيه الأسئلة.
كانت المرأة ثقافياً تمثل السؤال المعاكس المشاغب للرجل، هكذا صورتها الثقافية، وسارت المقولة النسقية بأن الرجل كلما كبرت سنه ازداد حكمة، بينما المرأة إذا كبرت سنها ازدادت حمقاً، وظلت هذه بمثابة جملة ثقافية تدير النظر باتجاه المرأة، وهنا يأتي المفترق المعرفي لإعادة ترتيب التصورات عبر منهجية نقدية نظرية، تزيح الهيمنة وتصنع نموذجاً للتعددية الثقافية، عرقاً وجنساً وطبقة وإعماراً، وسنلاحظ بسهولة كثرة أعداد النساء المبدعات في زمننا المعاصر، حتى ليكون الرقم في عقود محددة أضعاف أضعاف كل الأسماء على مدى قرون. وفي الماضي كان عدد من سجل التاريخ أسماءهن من النساء لا يتقارب مع أي رقم لأعداد الرجال في أي مجال، بينما اليوم يكفي أن ننظر في قوائم الأسماء في أي مجال وسنرى التنافسية بارزة في الأرقام فيما بين الجنسين، ومثله عدد الأسئلة وعدد درجات الوعي وعدد قيم المعاني التي استعادت أنفاسها بعد كتمان طويل. وهنا تأتي مقولة (النظرية بوصفها امرأة) لتشير إلى جوهر التغير المعرفي في مقام السؤال النقدي وقيمته العلمية وما يفتحه من فضاء في التصورات وإعادة تأويل الخطاب.
سقف النظرية
هل بلغت النظرية سقفها أم استقامت على السطح؟! أن تبلغ السقف يعني أنك وصلت إلى ذروة فضائك، ولم يعد لك من فضاء أعلى منه، أما إن تحول السقف إلى سطح فباصرتك سترتفع لفضاءات أعلى ويسندك السطح للترقي لما هو فوق. هذا سؤال مرحلي تفرضه الحالة اليوم، ولقد مرت النظرية النقدية في العالم العربي على مدى أربعة عقود كلها ثرية في منتوجها البحثي والتطبيقي، وانتعشت النظريات بحيوية فائقة من المحيط إلى الخليج، وانداحت خارطة المعرفة النقدية طاوية الحدود وملغية المركزيات، وصار الخطاب تبعاً لهذا خطاباً في التعددية الثقافية وفسيفساء المعرفة، وبلغ ثراء المصطلحات مثله مثل فضاء التطبيقات درجات عالية في الاجتهاد والبحث المتصل في تطوير الأداة النقدية من جهة وفي طرق كل أبواب الأسئلة ومظان البحث والتساؤلات. تلك عقود أربعة شكلت جيلاً من الثراء المنهجي ومدونة مكتنزة بالنظريات التي أنتجها النقد الألسني بكل تفرعاته وتنوعاته وامتداداته، وجاء النقد الثقافي متفرعاً عن شجرة النقد الألسني، ليحدث تحولاً نوعياً من سؤال النص إلى سؤال النسق وهذا منجز صنعته المدونة النظرية وأنضجه جيل الثراء المعرفي النقدي، والسؤال هنا سيأتي عن مستقبل هذه المدونة.
وهل بلغت المدونة سقفها أم صنعت سطحاً يمثل منصة الانطلاق؟ هذا سؤال لن يجيب عليه سوى الجيل الجديد من شباب وشابات النظرية النقدية. هل سيتعامل هذا الجيل بوصفه جيلاً لاحقاً ويظل في صفة اللاحقية؟! ويبقى في هذه الحال عند حد السقف أم سيصعد من فوق السقف وينطلق لما هو أبعد؟ على أن (الما بعد) صار اليوم هو المصطلح الأخطر والأكثر تحدياً (ما بعد الحداثة)، ما بعد البنيوية، ما بعد الكولونيالية، ما بعد العولمة، وهنا استدعي (لوحة التلقي) كما طرحها هارولد بلوم في ست خطوات هي:
الأولى ـ حالة الاختيار، وهي الحالة التي يأتي فيها الآتي وقد احتله سابق أكبر منه.
الثانية ـ حالة الميثاق، وفيها يتقبل التالي لسالفه ويتبنى رؤيته.
الثالثة ـ حالة التنافس، وفيها يجري اختيار مصدر إلهام معادل لمصدر إلهام السابق.
الرابعة ـ حالة حلول، وفيها يبرز الآتي كفارس تحرر ظاهريًا، فيتقدم بهدف تكوين حالة أصيلة.
الخامسة - حالة التفسير، وفيها يقوم التالي بإعادة تقييم السالف.
السادسة - حالة الرؤية الجديدة، وذلك حين يقوم التالي بإعادة ابتكار سالفه، بما إنه بلغ درجة الرؤية الجديدة.
(للعو دة إلى هذه اللوحة، أرجو النظر في كتابي الخطيئة والتكفير، ص 326).
هذه لوحة رسمها بلوم لحالة الإبداع، وجعل خط سير الشاعر هو نموذجها، وهي في حقيقتها ترسم صورة كل حالات الإبداع النظري والعملي، وما لم يتمكن التالي من التدرج عبر هذا السلم السداسي إلى أن يبلغ الدرجة السادسة فإنه سيظل تحت السقف أو عنده، حسب درجته من هذا السلم السداسي، فقد يبقى عند الدرجة الأولى من السلم، وحتمًا فإنه لن يصل لمستوى الرؤية الجديدة إلا أن عبر الدرجات حتى يصل لما بعد السقف، وإن هو صعد إلى السطح فسيصبح مؤهلاً لأن ينطلق نحو كوكبه الخاص الذي سيكون سقفاً أو سطحاً للآتين من بعده.
هنا يأتي سؤال النظرية وموقع الجيل الشاب معها، وليس بخاف علينا أن مشكلات معرفية عويصة تكشف عن نفسها اليوم، ومنها:
أ ـ هناك ملاحظة تجري كثيراً وهي أن مصطلح جيل الرواد صار يتردد على أقلام الجيل الشاب بوصف الرواد سقفاً حتى ليتبدى عملياً وكأنه قمة المطاف المعرفي، وكأن أقصى منية الشاب أو الشابة هو بلوغ مستوى نموذجهم الريادي (وهذه جملة سمعها الكثير منا تتردد على ألسنة الجيل الشاب معبرين أن مطمحهم هو أن يكون الواحد منهم مثل أستاذه، وكأنما هي نسخ مكررة فحسب) .
وهذا يجرهم إلى مأزق معرفي يقع في حالة التطبيق إذ يجري التعامل مع المصطلح المستقى من الرواد وكأنه كتلة صماء هي للخرس أقرب منها للتوالد لن يفلح الجيل الشاب مع معترك النظرية ما لم يتمكن اللاحق من مسألتين جذريتين ومندمجتين هما امتحان المصطلح ومساءلته من جهة ثم عركه مع التطبيقات من جهة ثانية، فإن لم يحدث هذان معا فسيتحول المصطلح إلى مفردة معجمية ويصبح جزءا من كتاب في تعريف المصطلحات ويتوقف عن كونه عنصراً منتجاً يعيد تأويل الخطابات أو يسهم في كشف الأنساق، وحتماً فإنه حينها لن يولد مصطلحات مستجدة تتحرك مع تحولات الخطاب. ولدينا مثال تاريخي عن البلاغة العربية التي تحولت مع الزمن إلى كتلة صماء حتى قال الشيخ أمين الخولي مقولته الرائدة: (لقد نضجت البلاغة حتى احترقت)، ولن يسلم المصطلح النقدي والنظرية من الوصول إلى هذه النهاية ما لم يصعد اللاحقون إلى السطح ويتحررون من السقف، أي يبلغون الدرجة السادسة في لوحة بلوم.
ب ـ جرت حالة من الانبهار في توصيف النصوص الإبداعية أكثر من تشريحها، ويتم في هذا الموقف إطلاق منظومة من المصطلحات على نص ماثل بما يشبه تماماً ما قد قيل من قبل عن نص غيره، أي أنك تلبس هذا الجسد ثوب جسد آخر، وهذه مسألة ملحوظة كثيرا، وكأن مجرد إطلاق المصطلحات تكفي للظن بأننا قلنا شيئا، والحقيقة أن هذه حيلة ثقافية خادعة تجعلك تحول المصطلح إلى صفة، وتحول النص المدروس إلى نص موصوف، والصفة جاهزة من قبل، والنص جاهز من قبل، ويكون النقد لحظتها جاهزاً من قبل، والنتيجة لن تتجاوز الدرجة الأولى من لوحة بلوم.
ج ـ يتبدى أن مفهوم النص تحول إلى مفهوم شكلي، أي أن المفاهيمية النصوصية تحولت لتقف عند مجرد القصيدة بوصفها قطعة مكتوبة أو منطوقة، ذات جسد واحد مكتمل، ويغيب عن البصيرة كونها نصاً بمعنى أنها عنصر من خطاب أو أنها كتلة نسقية، مضمرها أخطر من مكشوفها. وفي هذه الحال فإن المصطلح الذي تحول إلى صفة لن يفلح في كشف ما وراء النص، وسيبقى النص وكأنه أفق مغلق يحتوي بصيرة الناقد ويتحكم بلغته وبمستخلصاته.
دـ كل هذا بسبب سطوة الخطاب النقدي الريادي وكأنه سقف وليس سطحاً، أي أن مصطلحات الرواد ومستخلصاتهم تحولت لتصبح هي القدوة وتظل قدوة، وهذه حالة (الميثاق) كما في الدرجة الثانية من لوحة بلوم، حيث يتبنى الآتي رؤية السالف ويتماهى معها، أو يكتفي باستعارة مصطلحات السالف الرائد بوصفها (صفات) قابلة للترحل من نص إلى نص. ما عرضته هنا هو أمر ملحوظ على الدراسات الشبابية الأخيرة، ولن يتم كسر هذه الدائرة المغلقة إلا بالترقي مع لوحة بلوم، دون التوقف قبل السادسة، وهذا وحده ما سيحول سقف النظرية إلى سطح.
... ... ....
* قدمت هذه المداخلة في مؤتمر النظرية النقدية (اللقاء السعودي المغربي بجامعة الأميرة نورة / الرياض 12 / 12 / 2016