د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
منذ عرف الإنسان الاستقرار في جماعات عرف التشريع؛ سواء كان مكتوباً أو عرفياً. وأثبت الباحثون في علوم الحيوان أن لبعض الحيوانات أيضاً أعرافاً غريزية تنظم سلوكها. وعرفت البشرية أول تشريعات مكتوبة في العهد البابلي سنها حمورابي في العراق 3000-2000 قبل الميلاد، كتبت على ألواح من الطين، وتتعلق بالملكية والتجارة والزواج وبعض الحقوق المدنية الأخرى. ومنذ ذلك التاريخ والبشرية تطور وتعدل في أساليبها التشريعية لتكون أكثر عدالة ونجاعة، مع أن بعض تشريعات حمورابي تبدو أحيانا أكثر عدالة من التشريعات في بعض الدول الحديثة.
ونصت معظم التشريعات، باستثناء بعضها كقوانين دراكون اليونانية، أن الهدف من العقوبة هو التنبيه والردع والحفاظ على النظام وليس الإيذاء أو الاستفادة المالية. ويحرص المشرعون تكون العقوبات متناسبة مع طبيعة المخالفة وظروفها ومع الغاية من سن النظام. ففي الشريعة الإسلامية مثلاً تختلف عقوبة القتل العمد عن القتل الخطأ أو القتل شبه العمد.
وللفقيه لون فولر Lon Fuller إسهام شهير حول شروط عدالة التشريعات عزا فيه فشل المشرع في إصدار قوانين عادلة بثمانية اعتبارات:
1) عدم كتابتها بشكل قواعد واضحة لا غموض فيها.
2) عدم الإعلان الواضح للتشريعات.
3) سوء استخدام الصلاحيات التشريعية.
4) صعوبة فهم التشريعات لمن يأتمرون بها.
5) تناقض التشريعات (العليا مع الدنيا مثلاً).
6) أن تتطلب التشريعات سلوكاً فوق طاقة المحكومين بها.
7) سرعة تغيير التشريعات بحيث لا يمكن التكيف معها.
8) انعدام التواؤم بين القوانين وتطبيقاتها.
وهناك شبه إجماع فقهي على ضرورة تناسب العقوبة مع قدرات المحكومين بها لأنه لا يكلف الله إلا وسعها، والبشر بطبيعتهم خطاؤون، والهدف من العقوبة الردع والتذكير وليس الإيذاء.
ويعاقب القانون على مخالفة الأنظمة، ولكن -أيضاً- على التقصير في تطبيقها بشكل صحيح. وأسلوب تطبيق القوانين بأهمية القوانين ذاتها، ولا يمكن أن تكون القوانين عادلة بغياب محاكم محايدة يمكن الترافع أمامها، أي أنه لا يمكن أن يكون أحد الخصوم حكم فيها.
خطرت لي هذه الأفكار عندما تلقيت مخالفة مرورية بـ3000 ريال، بشكل اعتقدت أنه غير عادل لا شكلاً ولا مضموناً.
القصد المعلن من المخالفة وجيه ومهم وهو الحفاظ على أرواح الآخرين، لكنها قد تكون مضخمة بشكل كبير إذا انتفى التهديد التي سنت من أجله -أي تهديد أرواح الآخرين-.فحجم مبلغ هذه المخالفة 3 إلى 6 آلاف ملفت للنظر بحد ذاته لأنه يتجاوز الحد الأدنى لأجور كثير من العاملين.
وتطبيقها في الحالات التي لا تشكل تهديداً صريح لحياة الآخرين غير عادل، فالهدف هو ضبط السير.
يزيد الطين بلة أن يوكل أمر تقدير مخالفة بهذا الحجم إلى كاميرا وجهاز حاسوب أصم لا يفرق بين ما يعرض حياة الناس للخطر وما هو من قبيل الخطأ البشري البسيط، فالحاسب لا يعنيه سياق المخالفة ولا ظروفها. فلو وقف سائق أمام الإشارة لمرات عدة متتابعة بسبب زحمة السير وبطئه بحيث لا يستطيع التركيز على الإشارة من الفوضى التي هي ليست جزءًا من برنامج الكمبيوتر الذي يرصد فقط تجاوز خط الإشارة بأية مقدار!! وفي غياب شبه تام لجهد رجال المرور المسئولين عن تنظيم السير عند الإشارات أو في الشوارع، وعندما لا يقصد السائق قطع الإشارة وهي صفراء ويكون في حالة دوران للخلف وليس السير للإمام، ويكون ذلك بسرعة بطيئة جداً لا تعرض أي مخلوق للخطر فما يبرر مخالفة بهذا الحجم؟ ولنا هنا أن نفترض أن الكمبيوتر الأصم أخل بكثير من أهداف التشريع بحماية أرواح الناس، وأن مراقبته في ظروف كهذه تتجاوز قدرة السائقين البشر وفوق تقديرهم.
وعندما لا يفرق برنامج الكمبيوتر البدائي بين من يقطع إشارة حمراء بسرعة كبيرة، وبين من فقد التركيز على إشارة صفراء بسبب الفوضى حوله، فإننا نستنتج أن العقوبة شملت سائقين لا يشكلون خطراً أبداً على السير ولا على الآخرين فلما هذه العقوبة المغلظة التي يفترض أن تكون لحالات التهور الخطير.
أليس من طبيعة العقوبات في التشريعات كافة التدرج؟ فهل يحق لنا أن نعتبر الإنسان آلة؟ فالسهو والنسيان أعذار شرعية. والجميع يعرف أن الوفيات في الحوادث هي بسبب السرعة، والتهور ومخالفة قوانين السير، وليست بسبب تجاوز الخط عند الإشارة بسنتيمترات في حالة وقوف، أو سوء تقدير لمدة الإشارة الصفراء عند الاستدارة ببطء لا معه خطر ولا تهديد!! فالعقوبة من جنس العمل، ونحن متأكدون أن الهدف من المخالفات هو الردع وليس العائد المالي. وليس من عاقل لا يدعم المرور في مسعاه لتنظيم الحركة المرورية، فليته يركز على المخالفين الحقيقيين الذين نجحوا إلى حد كبير في هزيمة الكاميرات والكمبيوترات وفي تحويل شوارعنا لساحت خطر؛ فالفوضى تزداد، والخطر يتفاقم وساهر أعجز من أن يردعها، لأنه لا يمكن استبدال الجهد البشري بآلة.