د. حسن بن فهد الهويمل
ما نعيشه في عالمنا الثالثي المتخم بالأزمات، وما نتجرّع مراراته, إن هو إلاّ فعل فاعل مُتَعمِّدٍ, ماكرٍ, متربِّص.
نعم أُمَّتُنا العربية تتحمل جرائر القابلية للاستعمار، والتبعية للغالب، وتنفيذ (أَجِنْدَتهِ) بكل حذافيرها، دون استفادة مما يتكشّف لها من مكائد.
قيل الكثير عن المضمرات السيئة لدول الاستكبار, والاستبداد. وجاء القول من مفكرين غربيين أحرار، أخافتهم العواقب الوخيمة للظلم. وكُشِفَت خرائطُ الطريق المرعبة من متابعين مهرة في اختراق المضمرات. ولكن المتلقي العربي يمر بها، وكأنها لا تعنيه !.
وما أضر بالأمة، وشَلَّ حركتها, وغَيَّب وعيها إلاّ المستغربون من (علمانيين) و(ليبراليين) المتعمدين لتزييف وعيها عن قصد، أو عن غباء معتق, وذلك باستبعاد نظرية (الغزو) و(التآمر)، وتزكية الغرب، والحث على استقبال مدنيته بكل ماهي عليه.
قدر أُمتنا أنّ هذا العشق يتم من طرف واحد. فـ(ليلى) المتيّمين تتمثل في (مَدَنِيَّةِ الغربِ)، لا في حضارته. وفي لهوه, لا في جِدِّه. وفي فَنِّه، لا في معارفه. وفي تبذُّله, لا في عمله. وفي فوضوية أخلاقه, لا في ضوابط تعامله.
وهذا التهافت العقيم لم يَحْمِلْ المعشوق المتعالي على التلطُّف والإفاضة بشيء من مدركاته الفكرية، أو شيء من منجزاته المادية. إنه يتعمّد حبس معارفه, ومكتشفاته, ومهاراته. ويسخو مُفِيضاً بغرائزه، وشهواته، ولهوه دون جِدِّه.
والمُتَنَخْوِبون يُوفِضون إلى نُصُبِه، ويكرِّسون في عالمنا التبعية، والاستهلاكية، وعملقة الأقزام، وتصنيم الأوهام، والغثائية, والنبش في عفن النفايات. على حد:- (يموت الدجاج وعينه على المزابل).
الغرب: حضارة، ومدنية. وقيم: حسية, ومعنوية. وهو متقدم علينا بظاهر الحياة الدنيا, مُسْتغن عنا. ونحن أحوج ما نكون إليه. مضطرون إلى التعامل معه، والتزود من كل مكتشفاته، ومخترعاته، ومعارفه. ومكمنُ الإشكالية الفشلُ في إدارة التعالق.
أُمتنا تتخبط في تعاملاتها. فلا هي اعتزلت, ورضيت بما هي عليه من بدائيات، وسعت لتأهيل نفسها بنفسها. ولا هي استقبلت الآخر بوعي، وندِّية، وحددت ما تريده منه، وأخذت حذرها من مكائده, ولعبه, وامتصاصه لخيرات أرضها، وتحريشه بين الفرقاء من أطيافها. فهو ظالم عندما يأخذ, شحيح عندما يعطي، مُضِلٌّ عندما يشير.
الغرب يراوح بين (الغزو, والتآمر), وسبيل ذلك ثلاثُ تِرسانات :-
ترسانة (الدولار) يشتري بها الضمائر الضعيفة.
وترسانة (البنتاغون) يقمع بها الرؤوس الشامخة.
وترسانة (الإعلام) يُضِلُّ بها من يشاء.
وهذه الأخيرة حُشِدَ لها أَعْلامُ الفكر, وعمالقةُ السياسة, ممن يقلبون للمغفلين الأمور, ويستدرجون السذّج من حيث لا يعلمون.
والغرب الرأسمالي تؤزُّه مصالحه، بحيث لا يقيم وزناً لمشاعر المغلوب, ولا لهمومه، ولا لتطلعاته. {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}:-
(ليس هناك صداقات تدوم, وإنما هناك مصالح تتعارض) أو كما قالت المرأة الحديدية.
ولما كان الإسلام مُتَّسِماً بفكره السياسي العادل, ونظامه الاقتصادي المحقق للإنسان إنسانيته، المتمثلة بحفظ التوازن بين القيم الروحية, والمادية، أصبح في صراع مستميت مع رأسمالية تسحق الجماعة لمصلحة الفرد, وماركسية تسحق الفرد لمصلحة الجماعة.
وغلبة المفضول للفاضل مرجعه إلى زيوف الادعاء, وضعف الإيمان، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}
فكم من متردد, حين يرى الغلبة لعدوه, يظن أنّ الحق مع الغالب {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
وضْعُ العالم الإسلامي لا يبعث على الاطمئنان، ولا يغري غير المسلمين بالإسلام. والمرجفون يَرُدُّون هذا الوضع إلى الإسلام، لا إلى غثائية المسلمين, ومكر المتغربنين. وتلك مكيدة أطلقها الأعداء, وصدّقها الأغبياء.
والأخطر من (الغزو, والتآمر) الخارجيين (الغزو من الداخل)، فالمستغربون المصنوعون على عين الغرب، يوجفون بألسنتهم، وأقلامهم، لحمل الكافة على ما هم عليه من تهافت مقيت على ضريع الغرب، الذي لا يسمن، ولا يغني من جوع.
إنّ على أُمتنا أن تعيد قراءتها للمشهد المليء بالشواهد، وأن تملك الشجاعة، بحيث تحطم المسلّمات المزيفة على كل المستويات. فنقد الذات ومساءلتها خطوة أولى نحو تدارك الأمر.
نحن أحوج ما نكون إلى وعي الواقع، ومحاسبة الذات، وتحمُّل المسؤولية، والاعتراف بالتقصير فمآلات الأمة الموجعة مرتبطة بتصورات خاطئة, وإسقاطات هروبية..
نحن وحدنا المسؤولون عن هذه المصائر، والتاريخ لن يرحمنا، ولن يكون من المعذرين.
إنّ أمامنا أكثر من فرصة، ولا مجال للتيئيس والإحباط.
فلنبادر الإصلاح لنأمن الإهلاك:-
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.