د. جاسر الحربش
ليس للجغرافيا، شمال جنوب شرق غرب، دخل في الفرق النوعي في عقليات البشر. الشرق كان فيما مضى متقدماً ثم تقهقر، وفي الغرب حدث العكس. المؤكد أن الهم الأول للمواطن العربي بالذات هو تأمين لقمة العيش لأسرته، وليس تحقيق الذات. الهم هو نفسه أيضا في كل الدول المحكومة بالقناعة القدرية ولزوم حدود الطاعة بدون سؤال، الرسمية والطبقية والتراتبية الاجتماعية التقليدية. مثال ذلك أن تستكثر العقلية الاجتماعية على الأذكياء من أبناء وبنات الطبقات الهامشية أن تكون لهم طموحات بمستوى قدراتهم العقلية. تكتمل الدائرة حين تعتب هذه العقلية على الخاملين من أبناء وبنات الطبقات النافذة أن يكون أداءهم أقل مما تتوقعه طبقتهم الاجتماعية، كأن يقال كيف عيال وبنات ذولاك يطلعون أحسن منكم؟.
في أي مجتمع بهذه العقليات يكون طموح الخلف مركزاًً في المحافظة على مستوى السلف، ويكون في الطبقات الهامشية مركزاً على تأمين لقمة العيش الكريمة أولاًً، ولا بأس لو حصلت على بعض الإضافات المادية والمعنوية المتواضعة. الناقص الاجتماعي في العقليتين هو المحرض الاجتماعي والعائلي والشخصي على تحقيق الذات. تحقيق الذات يعني إتاحة الفرص لاستخراج الطاقات الكامنة في الفرد، من المهارات اليدوية والفنية وصولاً إلى عبقريات النبوغ في العلوم المادية البحتة.
الآن ارسم خطاً على كرة افتراضية تمثل الأرض يقسم الجغرافيا إلى نصفين شمالي وجنوبي. عليك هنا أن تضمر في عقلك أن أستراليا ونيوزيلندا من الناحية العقلية جزء من النصف الشمالي. عندما تراجع أهداف المناهج التربوية والتعليمية في النصف الشمالي تجد التركيز على إتاحة الفرص للمواهب بأنواعها واستخراج إمكانياتها ومكامنها كاستثمارات نوعية، ثمينة أولاًً للفرد بذاته ولمجتمعه الصغير ولوطنه، ثم بما يتعدى ذلك إلى خارج الحدود في العالم الواسع. هذا هو العيش بعقلية تحقيق الذات، وليس بعقلية الاكتفاء بتأمين البقاء والستر فقط من الولادة إلى الممات.
انزل إلى أسفل الخط الجنوبي من الكرة الأرضية، ماذا سوف تجد؟. تجد النمط العقلي الثاني، أي البحث عن العيش في حدود قناعات البقاء والستر والطاعة. المناهج التربوية والتعليمية والتلقين الاجتماعي لمفاهيم الطاعة الانصياع والقناعة لا تشجع على تحقيق الذات. المسألة مثل توالد الأرانب، أرنبان يخلفان أرانب، ولا مكان للتنوع داخل الفصيلة.
في نموذج النصف الشمالي ليس هناك مبرر للجري خلف لقمة العيش لأنها مضمونة حسب قدرات الفرد. الهم الأكبر هناك يتركز على تفجير الطاقات الكامنة للعثور على الجودة النوعية. في النموذج الجنوبي لا يوجد سوى المبرر للبقاء بطريقة تأمين لقمة العيش، وما يتحقق فوق ذلك يكون مجرد طفرات غير متوقعة توضع خلف العلامة العشرية في حسابات مجتمعات القناعة والتراتبية الموروثة من سالف الدهر والأوان.