د. محمد بن إبراهيم الملحم
المداخل الثلاثة التي اقترحتها لإنقاذ التقويم المستمر (التثقيف والتفويض والمحاسبية) تعتمد بقوة على عنصرها الثالث وهو المحاسبية، ولكي نتحدث عنه فلابد من الواقعية وعدم التحليق في الأماني لأن نظام المحاسبية في العمل الحكومي مضروب كما هو معروف ويحتاج دهورا لإصلاح ما يمكن إصلاحه، ولهذا فإني أقدم أنموذجا هجينا بين المحاسبية النظامية والمهنية والفرق بينهما لطيف فالأولى معروفة أما الثانية فهي تنتمي إلى فئة الوعي الشخصي بقيمة المهنة وأفضل ممارساتها والشعور بالفخر بحسن تطبيقها، وهذا ما عولت عليه كثير من النظم كفنلندا مثلا حيث على رغم أن راتب المعلم ليس عاليا بل في مستوى رواتب العمل الحكومي إلا أن المعلم هو أكثر موظف يفتخر بوظيفته هناك وما ذلك إلا لقوة تأثير الشعور بالمهنة وممارساتها على صاحبها، وهذا أمر مشاهد وسأشرح بعد قليل هذا الجانب في حالتنا هذه لكن أذكر أن مدخل التثقيف المتمثل في الحملة الإعلامية المكثفة سيضيف إلى هذا العنصر الكثير من الزخم ومن شأنه أن يكون بذرة تغيير من الأسفل وهو أقوى أنواع التغيير (من الأسفل للأعلى). نموذج المحاسبية الذي أقترحه هنا يقوم على عدة عوامل: الأول هو أن التفويض لا يعفي الرئيس من المسئولية فهو محاسب تماما كالمرؤوس وهذا يضع مدير المدرسة في بوتقة واحدة مع المعلم المقصر الذي غش فأعطى الطالب غير المتقن التقييم (1) ليذهب للصف التالي ويتخلص منه أو حتى يتجنب مزيدا من العمل بإعادة الاختبار أو غير ذلك من الدوافع. الثاني: أن إدارة التعليم يجب أن تقوم بعمل اختبارات محلية كل فصل دراسي لعينات من المدارس لتقف على المديرين المقصرين في متابعة تقييم الطلاب بالمدرسة. حاليا يحدث هذا في بريطانيا مثلا فإن «أوفستد» OFSTEAD تقوم بعمل اختبارات مفاجئة للمدارس حيث كل مدرسة قد يمر بها الاختبار كل سنتين أو ثلاث لكنها لا تعلم بأي سنة ستجدول للاختبار وبالتالي ينبغي أن تكون جاهزة على الدوام وبمقارنة نتائج هذا الاختبار باختبارات المعلمين (تقويم مستمر) يتقرر مدى مصداقية وجودة التقييم بتلك المدرسة، ويذكر ذلك بتقرير المدرسة الذي ينشر ويطلع عليه أولياء الأمور. إذا طبقت الوزارة أو إدارات التعليم ذلك ونشرت (وهذا المهم) عن كل مدرسة نتيجتها في المقارنة مدونة أسماء المعلمين فلا شك أنه سيحمس المعلمين للتنافس بينهم وهذا ما رميت إليه بالمحاسبية المهنية، التي سيتفاعل معها فئة المعلمين اليدين الذين يلونهم، كما أنه من جهة أخرى سيضع يدها على فئة المعلمين أو المديرين المتهاونين فتتمكن من محاسبتهم نظاما، وهناك أساليب متعددة في نظام الوظيفة وممارساتها للتعامل مع من يتعمد التقصير في العمل، ولو كان بأقل تقدير نقل المعلم أو المدير إلى مدرسة أخرى (مع أن النقل ليس عقوبة أصلا). وفوق هذا فإن عدم معرفة المدرسة بأي سنة سيحين دورها للاختبار المعياري يجعلها على أهبة الاستعداد سنويا لتتجنب المفاجآت المزعجة.
العامل الثالث: مدير المدرسة ينبغي أن يقوم بعملية تقويم مستمر بالمدرسة بطريقته الخاصة ليتجنب المساءلة إن عثر على حالات متطرفة من تقصير المعلمين. ويمكنه ذلك بتكوين لجنة من المعلمين لعمل عدة نماذج أسئلة اختبارية لكل مادة تكون كلها بطريقة الاختيار من متعدد بحيث الإجابة في ورق مخصص على غرار ذلك المطبق في (قياس) والتصحيح بطريقة مفتاح التصحيح على الورقة الشفافة. وفي كل فصل يسحب منها واحدة عشوائيا لكل مادة ويقدمها للطلاب ويقوم هو بالتصحيح مع لجنة من زملائه الإداريين (وربما يستعين ببعض المعلمين) وحيث إن الاختبار سيشمل عينة عشوائية من الطلاب وليس الكل فهذا يسهل العملية. بهذا يتمكن المدير بعد مقارنة نتائجه بنتائج كل معلم من تصحيح مسار المعلم ذي التقييم الشكلي. أعلم أن كل ما تقدم ليس جديدا على كثيرين فما الهدف؟ رسالة صغيرة للمسؤولين: لا خيار لكم عن التقييم الأصيل authentic assessment الذي يضع يدكم على موطن الداء ولا يوجد تركيبة سحرية لحل مشكلات التعليم خارج نطاق أدبياته وممارساته لكن علينا أن نحسن التنفيذ ونستعين بالخبراء الموثوقين. لقد سمعت أن هناك مؤخرا تكليفا للمديرين بمثل ذلك ضمن مشروع «مؤشرات الأداء الإشرافي» لكنه إن طبق بدون اختبارات معيارية من إدارة التعليم وبدون محاسبية (مهنية بالنشر ونظامية بالمساءلة) سيظل يراوح في نفس المساحة السابقة من الشكلية فانتبهوا يا قوم إني لكم نذير مبين.