د. حمزة السالم
لم تجف تربة أوروبا من دماء أكثر من مائة ألف من الأمريكيين الذين قتلوا في الحرب العالمية الأولى حتى زجت أمريكا بأكثر من ستة عشر مليونًا من أبنائها، في أتون الحرب العالمية الثانية، لتُسفك دماء نصف مليون منهم على أيدي النازيين واليابانيين، ولتتبعهم بعد ذلك بمائة وخمسين ألف أمريكي، تردوا صرعى في مجاهل الأرض الكورية والفيتنامية، وذلك لمنعها من الفكر الشيوعي.
وكانت أمريكا آنذاك، تملك في احتياطاتها معظم ذهب العالم. فقدمت ثلاثة أرباعه من أجل الوفاء بمعاهدة برتن وود، التي انتهت بتتويج الدولار عرش الذهب.
وفتحت جامعاتها ومختبراتها لعباقرة الإنسانية. وصدرت مصانعها وخبراتها التي لا تقدر بثمن إلى الصين والهند ودول العالم الثالث، سامحة بذلك بتسرب أسرار الاختراعات والابتكارات. وتقدم المليارات سنويًا من المعونات الاقتصادية على اختلاف أشكالها وأنواعها لجميع دول العالم الصديقة لها والدائرة في فلكها.
فمن قصر النظر وبساطة التفكير أن يعتقد معتقد بأن سفح دماء الأبناء ليس له ثمن غالٍ عند الأمريكان وأن أمريكا لن تعمل على استرجاع استثماراتها المالية والعلمية والاقتصادية أضعافًا مضاعفة.
ولا يفهم أحد بأن أمريكا اختلقت الحرب وقتلت أبناءها وضيعت ذهبها وكشفت أسرار ابتكاراتها من أجل غرض ما، إنما من أجل الاستراتيجية الكبرى للمحافظة على الامبراطورية العظمى.
وفي أمريكا، الشعب لا ينتخب الرئيس حقيقة. إنما النخبة من أهل الحل والعقد هي التي ترشح من يصلح للرئاسة ومن بعد ذلك يوجه الإعلام لتوجيه الشعب لانتخاب من يحقق انتخابه أهداف أمريكا الاستراتيجية العظمى.
وقد ظهرت الفرصة في ظهور الخطيب القانوني الأسود ذي الخلفية الإسلامية على الساحة السياسية، فرصة ذهبية للنخبة فاستغلوها فنصبوه ثم استخدموها بقوة عاطفيًا وإعلاميًا وسياسيًا من أجل استرجاع الثقة والمصداقية الأمريكية التي اهتزت بعد غزو العراق والأزمة المالية.
ويبدو اليوم، أن النخبة قد خسرت خطتها الرامية بتنصيب امرأة تخلف الأسود في البيت الأبيض. ولكن هذه الخسارة ستقدح الفرصة عند دهاة النخبة الأمريكية.
وقد قاربت عقدين على الفلول، منذ أن وصل الإرهاب الأراضي الأمريكية فضيق عليهم حرياتهم. والتفاؤل عند النخبة الأمريكية يتضاءل في نجاح أساليبهم المعتادة في القضاء على الإرهاب. فبدأت أصوات المُتهمين منهم لبلادنا أكثر ارتفاعًا وأشد محاجة. فبلادنا كقوة دولية غنية، هي رمز الإسلام ومصدر افتخار المسلمين. وراياتها الخفاقة بشعار التوحيد، هي مصدر إلهامهم بالعزة والدولة والتمكين.
والحلف الأمريكي مع الخليج العربي وإن تدثر بالنفط، إلا أن حقيقة غايات دوافعه لم تكن إلا الحرب الباردة، والوجل من الخطر الشيوعي. واليوم قد تحول الوجل والقلق من تضييق الإرهابيين، منتحلي السلفية، للحريات الأمريكية.
والحرية هي دين الثقافة الأمريكية، فإن كانت قد خسرت بضعة آلاف من القتلى في حرب استقلالها وتحريرها من سيطرة التاج البريطاني، فأمريكا قد خسرت أكثر من ستمائة ألف قتيل، مما يشكل خُمس رجالها من حملة السلاح، في نزاع دموي لتحرير العبيد. فكل تضحيات أمريكا الدموية والعلمية والمادية لحماية حريات شعبها.
والنظرية هي افتراض علاقة تربط بين حقائق مشاهدة، غير مترابطة بالنظرة العابرة. وقد لاحت في خيال الفكر نظرية تستحق اعتبار احتمالية صحتها. وليس من الحصافة الاستهانة بها، أو النظر إليها من منظار نظرية المؤامرة فلا يُحتسب لها، أو أن يُرتكن إليها فيُستسلم لها فكل ذلك مجانب للصواب. فأمريكا لا تخلق الأحداث فالخالق المدبر المصرف هو الله. وأمريكا لا تستثمر في الثقة عبثًا، ولكن تبذلها في استخدام الأحداث لإيجاد الفرصة ثم بعد ذلك فهم يحسنون غالبًا استغلال الفرص. وقد نجحت أمريكا كثيرًا وفشلت كثيرًا، ولكنها تعلمت من نجاحها ومن فشلها، فأصبحت الحيطة والجدية مع أصغر الاحتماليات فرض عين لا فرض كفاية.