اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
عندما عقدت دول الخليج العربي العزم وصحت منها النية على إنشاء مجلس تعاون يجمع كلمتها ويوحد سياستها منذ ما يقارب أربعة عقود من الزمن لم يكن هذا الأمر إجراء تعسفياً، ولا سعياً وراء مطامع خارج حدودها، ولا بحثاً عن نفوذ مفقود، ولكن أتى ذلك استجابة لواقع موجود، فرضته عوامل ديموغرافية واقتصادية وسياسية وأمنية، فالتركيبة الاجتماعية والطبيعة الجغرافية، وما يعنيه ذلك من تداخل سكاني وترابط مكاني علاوة على تجانس نظم الحكم وتماثل أنظمتها السياسية ووحدة الهدف والمصير بإلاضافة إلى أن مصادر التهديد واحدة والتحديات مشتركة، كل هذه العوامل أدت إلى قيام هذا المجلس الخليجي المشترك الذي يكفل لأعضائه صيغة من التعاون البناء على مختلف الاصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والإعلامية.
ورغم أن الأمن والاستقرار وتحرر الإرادة واستقلالية القرار السياسي كانت هي الهاجس الأول الذي من أجله أنشأت دول الخليج العربي مجلسها المشترك إلا أن هاجس التنمية والإزدهار والحرص على كل ما يحقق الأمن الاجتماعي ويجلب الرخاء والطمأنينة للمواطن الخليجي لا يقل أهمية عن سابقه، بوصف ذلك غاية مستهدفة ومصلحة مشتركة تسعى دول المنظومة الخليجية إلى تحقيقها عبر إقامة وحدة إقليمية يُتاح لها من خلالها الاعتماد على قوة أعضائها الذاتية مع الاستفادة من عمقها العربي وظهيرها الإسلامي.
وقد بُني مجلس التعاون الخليجي على قواعد ثابتة كان لها الفضل في نجاحه واستمرار مسيرته حيث استهل ممارسة نشاطاته بصورة تصاعدية من الأدنى إلى الأعلى، وأنجز الكثير من الإنجازات ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأمني، وذلك على مستوى البنى التحتية ثم تطورت هذه الإنجازات ونمت عبر عقود زمنية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه بفضل تشاور الأعضاء وتغليب الرأي الجماعي واحترام موقف كل عضو من قبل الأعضاء الآخرين وإحلال الإيثار محل الأثرة مع التعامل على أساس من التكافؤ المنصف والتعاون المتبادل، وغير ذلك من الأسس المبدئية التي تأسس عليها نظام المجلس، تلك الأسس التي تنطلق جميعها من الاقتناع بأهدافه وجدوى العمل المشترك لتحقيق هذه الأهداف التي يأتي على رأس قائمة أولوياتها الأمن بإبعاده الداخلية والمحلية والإقليمية.
وتوالت الإنجازات على نحو ما يشاهده المتابع لمسيرة هذا المجلس الذي أصبح صرحاً يشار إليه بالبنان، إذ تتحدث عنه منجزاته وتشهد له نجاحاته بعد أن انتقلت دوله من حال إلى آخر، وقفزت قفزات حضارية بوأتها مكاناً لا تخطئه العين، نتيجة لما أفاء الله عليها من خيرات واحتوته أرضها من ثروات أهلتها لأن تكون أكثر قدرة على الانسجام السياسي والتكامل الاقتصادي والتنسيق العلمي والثقافي بدرجة تفوق أي تجمع آخر.
وقد خطت دول مجلس التعاون الخليجي خطوات واسعة على طريق التجارة البينية والتعاون الاقتصادي المشترك حتى بلغت مستوى متقدم من التنمية الاقتصادية وتنسيق السياسات المالية والاستثمارية والنقدية، بالشكل الذي جعلها أقرب ما تكون إلى توحيد التشريعات والأنظمة التي تفضي إلى توحيد العملة النقدية والتعرفة الجمركية وإنشاء السوق الخليجية المشتركة، وما يعنيه ذلك من انتقال المجلس الخليجي من مستوى التعاون إلى مستوى الاتحاد اقتصادياً، كما أن التعاون العسكري والتنسيق السياسي والإعلامي بين دول المجلس ارتقت بها عاصفة الحزم إلى صيغة إذا ما وضعت موضع التنفيذ تحولت صيغة التعاون التي قام عليها المجلس إلى صيغة اتحادية.
والواقع أن سقف إنجازات المجلس مهما كان مرتفعاً فإنه لا يزال دون السقف الذي يتطلع إليه مواطنو الدول الخليجية التي تأمل في انتقاله من مظلة التعاون القابلة للاختراق إلى قبة الاتحاد التي يصعب اختراقها، إذ إنه ما لا يتطور يندثر، ولا يوجد حافز إلى النجاح اعظم من النجاح نفسه، وهذا الكيان الخليجي أثبت نجاحه منذ أن تأسس رغم منغصات الداخل وضغوطات الخارج والتدخلات الأجنبية التي يتربص أصحابها بالمنطقة، الأمر الذي أصبح معه الربط بين تطور مجلس التعاون وبين الاستمرار في أداء واجباته والاضطلاع بمسؤولياته أمراً حتمياً في سبيل تحقيق الأهداف التي تأسسس المجلس من أجلها وخدمة أعضائه والشعوب المنضوية تحت لوائه.