أ.د.عثمان بن صالح العامر
الصيحة الجديدة في التربية تشجيع الطفل على العناد والمشاكسة، وعدم الانصياع والطاعة والتسليم بكل ما يقال له من قبل الأبوين فضلاً عن غيرهم دون التفكير فيه وإعمال العقل بما يترتب عليه، فالطفل السهل الانقياد قد يكون عرضة للاستلاب من الآخرين حين يكبر، مما يجعله مرشحاً -لا سمح الله- لأن يُوظّف من قبل الجماعات الإرهابية المتطرفة أو مروجي المخدرات، أو عصابات السرقة والإفساد، أو غيرهم من أولئك الذين يقبعون خلف الشاشات وفي مواقع الشبكة العنكبوتية، ويترصدون لهؤلاء الأطفال في كل زاوية ومنعطف من منعطفات حياتهم علّهم يجدون من يقبل أفكارهم وينضوي تحت لوائهم، فيأتمر بأمرهم ويسلم بما يقولون له دون تفكير أو مراجعة.
إن طفلك المطوع مشروع جاهز للاختطاف، ومن ثم التوظيف عبر وسائل التأثير المختلفة، خاصة الإنترنت الذي سهّل سرقة عقول أبنائنا ودغدغة مشاعرهم، وتحويلهم بين عشية وضحاها من حمل وديع ينصاع لما يقال له من قبل من حوله -خاصة الأبوين- إلى شخص شرس يريد الفتك بالكل جراء ما يملى عليه من أوامر وتوجيهات باسم الدين تارة وتحت طائلة التهديد والوعيد تارات، خلاف من رُبِّي على أن يقول «لا»، وأن يجيل فكره في كل ما يطرح عليه حتى لو كان من أقرب الناس إليه، إذ إن من صَعُب على الأبوين فرض الآراء عليه وتطويعه في الصغر سيكون أقوى عوداً وأقدر على مواجهة الآخرين وعدم التسليم لهم بسهولة إذا شب عن الطوق وبلغ مبلغ الرجال.
هذا باختصار يعني أن تكون أباً ديمقراطياً -إن صح هذا النعت- في تعاملك مع صغارك، فزمن الأب الديكتاتوري زمنٌ ولّى بلا رجعة، والمرحلة اليوم مرحلة الحوار والمناقشة، مما يوجب على الوالدين -قبل غيرهم- امتلاك مهارة بناء القناعات والقدرة على ترسيخ المسلّمات، وليس فرض الآراء والقبول بالانصياع الظاهر الذي قد لا يتوافق مع ما يخفيه الابن أو البنت من مسلّمات بمقدورهما حجبها عن قوى الرقابة المجتمعية، خاصة الأسرية القريبة منهما بما يملكانه من مهارة التخفي والاستتار خلف الأرقام السرية لأجهزتهما الخاصة بهما.
المرحلة تختلف جذرياً عمّا كان عليه حال الجيل الماضي، ولذا فبناء القناعة أولاً ومنذ الصغر، وإلا فأنت تؤسس لمشاريع بشرية قابلة للاستلاب والاختطاف من الآخرين بأي صورة من صور السرقة العقلية أو العاطفية، وأقلها أنك تُخرّج أبناءً سيعيشون على الهامش في دروب الحياة المختلفة.
قد يعتقد البعض أن هذا الأمر دعوة للتمرد على الأبوين اللذين قضى الله بطاعتهما طاعة مطلقة، أو أنه مجرد ظن وليس من المجزوم به، فهو ما زال في طور البناء والتكوين، أي أنه مشروع «لنظرية تربوية» طارئة قد لا ترقى لأن تكون حقيقة في يوم ما، ومع ذلك فإن الاحتياط واجب، والعاقل من اتعظ بغيره، فضلاً عن أن الباحثين والمختصين في علم مكافحة الجريمة يذكرون أن الكثير من الضحايا هم من تعودوا الانقياد المطلق دون المرور بدائرة الشك المنهجي أولاً والتفكير العميق فيما يطرح عليهم من أفكار، ومن يلقى عليهم خطب وتوجيهات مؤدلجة وموجّهة لخدمة جماعة إرهابية متطرفة.
الثقة بالأشخاص والانخداع بالمظاهر والإعجاب بالمشهورين المتواجدين في العالم الافتراضي المفتوح الحريصين على تسويق أنفسهم وتجميع الأتباع حولهم دون مراعاة منصفة للحق الأبلج المبين، والطيبة الزائدة، وعدم الحذر وأخذ الحيطة، ورفقاء الهوى المتبع قد تجني على صاحبها -لا سمح الله- ولذا كان لزاماً تنبيه صغارنا بأن عليهم الحذر وعدم الانقياد، فربما غُرّر بهم ودلّس عليهم وكان الثمن باهظًا والخطأ لا يمكن أن يغتفر.
يجب أن ننبّه هؤلاء الصغار أن القرآن حمال أوجه، وأنّ فيه محكماً ومتشابهاً، وخاصًّا وعامًّا، ومطلقًا ومقيدًا، وناسخًا ومنسوخًا، فليس كل من استشهد بنص أو دلل على ما يقول بآية أو حديث سيقود إلى الجنة، بل ربما كان ممن يلوي أعناق النصوص من أجل هوى في نفسه أو رغبة في الفساد والإفساد والعياذ بالله، ولابد في نظري من طرح فكرة تدريس الفلسفة في جامعاتنا السعودية في هذا الوقت بالذات، وهذا ما سأعرض له في مقال الثلاثاء المقبل بإذن الله. حفظ الله لنا ولكم النية والذرية، دمتم بود والسلام.