د.محمد بن عبدالرحمن البشر
هو أبو بكر عبادة بن ماء السماء، وهو من سلالة عبادة بن عبد الله الأنصاري، من ذرية سعد بن عبادة، وسمى بماء السماء أحد أجداده، فأخذ هذا الاسم، وقد لحق بقرطبة في الفترة العامرية والحمودية، ولقد كان شيخ صنعة الشعر في وقته، وهو أول من أشهر الموشحان، وان كان قد سبقه إلى ذلك غيره، وهناك من يقول ابن عبدربه صاحب الكتاب الشهير العقد الفريد، هو أول من اخترع هذا اللون من الشعر، وقيل هو الشاعر الضرير، لكن من المجمع عليه أن ابن ماء السماء هو الذي وأشهر هذا النهج الشعري الأندلسي، حتى أن هذا قد غلب على جميع فضائله، وذهب بكثير من حسناته كما يقول صاحب الذخيرة، وقد أبدع هذا الشاعر في كثير من أغراض الشعر المتعدد، وكان في بعض منها أجود من الآخر.
ويذكر أبو محمد علي ابن حزم الظاهري الفقيه المشهور، صاحب كتاب المحلى، وطوق الحمام والرسائل المشهور أن ابن ماء السماء كان حياً في صفر سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، ودلل على ذلك بقوله: كان قد نزل على قرطبة برد كثير كما يقع عندنا هذه الأيام، فقال عبادة بن ماء السماء فيه:
يا عبرة أهديت للمعتبر
عشية الأربعاء من صفر
أرسل ملء الأكف من برد
جلامداً تهمي على البشر
فيالها آيـة وموعظـة
فيها نذير لكل مزدجر
كاد يذيب القلوب منظرها
ولو أعيرت قساوة الحجر
هذا ما نقله لنا الفقيه ابن حزم الظاهري، أما ابن شهيد الشاعر المشهور والناثر المميز الذي غمز ولمز في رسائله على بعض معاصريه وهم الفقيه أبو محمد بن حزم الظاهري وكذلك الغالي صاحب الامالي، فقد ذكر أن عبادة بن ماء السماء مات في شوال سنة تسع عشر وأربعمائة في مالقه، وذكر أنه قد ضاعت له مائه مثقال، فأغتم عليها وكانت سبب وفاته، وهذا لا يتفق مع المنطق، ولا مع ما يمكن للمتبصر أن يخلص إليه من خلال سيرته. ومن شعر الحكمة لديه اخترت هذه الأبيات:
إياك أن تدري يمينـك
ما يدور على شمالك
وأصبر على نوب الزمان
وإن رمى بك في المهالك
وإلى الذي أغنى وأقنى
أضرع وسله صلاح حالك
هذا النوع من الشعر البسيط المؤثر يسهل فهمه وحفظه والاستشهاد به في مواضع الحكمة، وعند النوائب والخطوب، وما أكثرها في زمانه وزماننا، ومن عوفي فليحمد الله.
وأجاد في إحدى قصائده الغزلية، واخترت منها:
رشأ توحش من ملاقاة الورى
حتى توحش من لقاء خياله
فلذاك صار خـياله لي زائراً
إذ كنت في الهجران من أشكاله
ولقد هممت به ورمت حرامه
فحماني لإجلال دون حلاله
وحببته حب الأكارم رغبة
في خُـلقه لا رغبة فـي ماله
ويقول صاحب الذخيرة، إنه ربما أخذ هذا المعنى من قول المتنبي:
وأغيد يهوي نفسه كل عاقل
عفيف ويهوى جسمه كل فاسق
ما أروع هذا المعنى عند المتنبي، وعند ابن ماء السماء، فكلاهما قد أبدع فيما رمى إليه، وما وجه سهمه عليه، فليتنا نهوى من الغيد العفة والنفس الطيبة وهذا ما يبحث عنه العقلاء، وليس غير العقلاء الذين لاهم لهم سوى البحث عن الجمال الجسدي، ولاسيما في الزوجة الثانية، وبعد أن يقع ما يقع، ويختلف المظهر عن الجوهر ويبقى الجرح الذي كسره لا يندمل.
لن أطيل الحديث عن عبادة بن ماء السماء فشعره شاهد على قدرته الشعرية، وملكته التعبيرية، وهذا يظهر ما أبرزته مرحلة هامة من مراحل الشعر في العصر الأندلسي، سواء في فترة الازدهار، وعلو الشأن، أو في زمن الاقتتال والصراع بعد التفرق وانحسار الأرض كما حدث في عهد الطوائف الأول، وعهدها الثاني، أو تلك الفترة التي تلت عمالقة الفترة الأخيرة، والتي غاب عنها الشعر والنثر والتأليف، وضعف فيها القول، بعد أن بلغ أوجه قبلها بقليل على يد ابن الخطيب الوزير السفير، وابن زمرك الذي مازالت أشعاره مكتوبه على جدران الحمراء، وقبلهم ابي الحجاج، وكذلك ابن الأحمر الحفيد إلى أن ظهر المقري بعد السقوط في مؤلفه نفح الطيب، ليطيب الخاطر ببعض من تاريخ وشعر أبناء الأندلس، وينقل لنا بعضاً من مباهج ذلك القطر ومآسيه.
جعلنا الله ممن يعيش في خير وسلام ومباهج، وأن يبعد عنا المآسي والأحزان.