فضل بن سعد البوعينين
برغم الجهود العالمية لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة تشهد ظاهرة الفساد نمواً ملحوظاً في كل من الاقتصادات النامية والمتقدمة على حد سواء؛ ما يرفع من تكلفتها الاقتصادية والاجتماعية؛ ومخاطرها المتشعبة. تشير بعض التقارير الدولية إلى أن تكلفة الرشوة السنوية ربما ناهزت تريليوني دولار، وهذا بخلاف أنواع الفساد الأخرى. تكاليف باهظة تتسبب في الكثير من المشكلات التنموية والمجتمعية والاقتصادية ومنها الفقر والبطالة وتعطل التنمية.
يؤكد «صندوق النقد الدولي» على أن نجاح جهود مكافحة الفساد يتطلب تحقيق خطوات مهمة وفي مقدمها «تعزيز الشفافية، وتقوية سيادة القانون والملاحقة القانونية، وتنظيم وتبسيط اختصاصات الموظفين العموميين، إضافة إلى ضرورة لعب القيادة السياسية دورًا حاسمًا في مكافحة الفساد»، وهي متطلبات مهمة لتعزيز النزاهة، وخفض نسبة الفساد إلى مستوياتها الدنيا، وإن كنت أعتقد أن الملاحقة القانونية، ودور القيادة السياسية في المكافحة أهم المتطلبات على الإطلاق. فمتى حضرت الإرادة السياسية نجحت في الحد من مظاهر الفساد بدعمها الهيئات المعنية، وإطلاق يدها، وحمايتها وتسليحها بالأدوات المناسبة، ثم بتفعيل القانون على الجميع دون استثناء، وهو أمر لا يمكن للنزاهة أن تتحقق بمعزل عنه.
استشعار القيادة السياسة في المملكة لأهمية مكافحة الفساد هو ما دفعها لإنشاء هيئة مكافحة الفساد، ودعمها لتحقيق أهدافها، غير أن تطور أدوات الفساد، وتشعبه وتمدده الأفقي والرأسي إضافة إلى فترة حضانته التي امتدت لعقود تستوجب الحصول على الصلاحيات، والتشريعات المهمة؛ إضافة إلى تفعيل دور الملاحقة القانونية وفق الإجراءات الدولية المتبعة في هذا الجانب. لا يمكن لـ «نزاهة» أن تقوم بدورها المأمول دون حصولها على دعم القيادة الأمثل الذي يزيل من أمامها جميع المعوقات التي تحد من قدراتها التنفيذية. إنشاء هيئة مكافحة الفساد لا يعني نهاية المطاف؛ بل بداية الطريق المؤدية إلى تعزيز النزاهة وتحويلها إلى ثقافة تقوم على قاعدة من التشريعات والممارسات التي تؤطرها الأنظمة واللوائح الدقيقة، ويحميها القانون الصارم الذي لا يستثني أحدا كائنا من كان.
أحسب أن «نزاهة» تقوم بدورها الأمثل مقارنة بالأدوات المتاحة لها، ومن الظلم مطالبتها بالمزيد دون تسليحها بأدوات مواجهة إضافية وحاسمة تمكنها من الانتقال إلى مرحلة متقدمة وشاملة من مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة. التوسع في الصلاحيات التنفيذية يمكن أن تدعم دور «نزاهة» وأن ترفع من كفاءة مخرجاتها، وإذا ما أرادت الحكومة تفعيل هدف تحقيق كفاءة الإنفاق وترشيد الأداء الحكومي فهي مطالبة بأن تركز بشكل أكبر على جهود مكافحة الفساد التي يمكن من خلالها تحقيق أهداف الحكومة الرئيسة، والتعامل الأمثل مع المتغيرات الاقتصادية وانخفاض الدخل، وبما يضمن لها رفد المالية وتحقيق جودة واستدامة المشروعات التنموية. أجزم أن تشديد الرقابة، وتفعيل أنظمة مكافحة الفساد قادرة على توفير مبالغ مالية تفوق بكثير ما يمكن أن تجنيه الحكومة من الرسوم.
تعمل الهيئة جاهدة على تعزيز النزاهة من خلال نشر الوعي المجتمعي، وهو دور مهم؛ غير أن الجانب القانوني أكثر فاعلية في مجتمع إسلامي يفترض فيه تشرب معايير النزاهة الربانية المؤصلة في تعاليم الشريعة، وفي كتاب الله العظيم بمعزل عن برامج التوعية. تنظيم «نزاهة» لـ«المنتدى الدولي الخامس لمكافحة الفساد» تحت شعار (متحدون على مكافحة الفساد) وبرعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز؛ أمير المنطقة الشرقية؛ يؤكد حرصها على المضي قدما في نشر الوعي الفكري في كل ما له علاقة بالنزاهة ومكافحة الفساد؛ وخلق شراكة حقيقية بينها وبين القطاعات الحكومية والخاصة وجهودها في حماية النزاهة ومكافحة الفساد.
رئيس هيئة مكافحة الفساد الدكتور خالد المحيسن أشار في كلمته في المنتدى إلى أن «اختيارَ المجتمعِ الدوليِّ شعار (متحدونَ على مكافحة الفسادِ) لهذا العام، دليل على أن الفسادَ لا يقتصر على فرد أو بلد بعينه، وأنَّ تعاونَ المجتمعِ الدوليِّ في سبيل حماية النزاهة ومكافحة الفساد، سيحد بإذن اللهِ منِ الفسادِ ويجفف منابعه».
إطلاق خدمة (قيّم) عبر تطبيق إلكتروني، لتقييم أداء الأجهزة الخدمية، من الخطوات المهمة التي أقدمت عليها «نزاهة» والتي ستمكنها من «قياس مستوى النزاهة والشفافية في تلك الأجهزة، ومدى رضا المستفيدين عن الخدمات المُقـدمة لهم». أندية نزاهة في المؤسسات التعليمية؛ والتي تم تدشين صفحتها الإلكترونية؛ ستسهم في دعم ثقافة النزاهة ومكافحة الفساد في أحد أهم القطاعات الحكومية على الإطلاق.
مكافحة الفساد يجب أن تتحول إلى ثقافة مجتمع، وأن يستشعر كل فرد مسؤوليته تجاه تعزيز النزاهة، وكشف الفساد والمفسدين؛ وهو أمر يمكن تحقيقه من خلال تعزيز القيم الإسلامية أولا؛ والقيم الأخلاقية والإنسانية، وأحسب أن البدء بالنشء يمكن أن يضمن لنا تغيير المجتمع، فالبناء يبدأ من القواعد، وقاعدة المجتمع البشرية هي النشء. إيجاد مواد تعليمية ومقررات النزاهة والقيم الأخلاقية لمراحل التعليم المختلفة من أدوات تأهيل المجتمع؛ وإعادة بناء مكوناته الأساسية؛ إضافة إلى التخصصات الجامعية وبخاصة في الدراسات العليا.
إضافة إلى ذلك، فالحكومة مطالبة بتعزيز الشفافية كأداة من أدوات المكافحة، والمضي قدما في تنفيذ مشروع الحكومة الإلكترونية؛ والاعتماد عليها في جميع الشؤون المالية والإدارية وبما يضمن تحقيق العدالة والنزاهة وخفض معدلات الفساد. فالمعروف أن التعاملات الإلكترونية من الأدوات الرئيسة المعززة للنزاهة. تفعيل دور مجالس الشورى؛ المناطق؛ البلدية والمحلية الرقابي من أدوات مكافحة الفساد؛ بل أعتقد أن دورها الرقابي في حال تفعيله يمكن أن يحد من النسبة الكبرى من الفساد في القطاعات التنموية والمالية على وجه الخصوص.