في الصباح الباكر دخل علي أحد الزملاء وأخبرني بأن والد زميلنا الآخر قد انتقل إلى رحمة الله .
في اليوم التالي توجهنا إلى الصلاة على الفقيد وفي المقبرة وأثناء مواراة جثمانه الثرى، فإذا برجل غريب يمسك بكتفي ويسلّم علي سلاماً حاراً، ثم بادرني بسؤال: هل أنت فلان ؟ أجبته نعم، قال لي: يبدو أنك لم تعرفني؟ أستجمعت كل قوى الذاكرة وفتشت للحظة في قديمها وأرشيفها فلم أستطع تذكّره، شعرت بحرج شديد، وفي الوقت ذاته بفضول أشد بادرته السؤال: من أنت؟ رد على الفور وقد ارتسمت على محيّاه ابتسامة عريضة قائلا: أنا زميلك في (قروب ثانوية الفهد).. أنا محمد علي! تذكّرته وحييته بحرارة شديدة واعتذرت منه كوني لم أعرفه للوهلة الأولى.
دقيقة أو أقل كانت عمر ذلك الحوار والتي أعادتني إلى الوراء أكثر من عشرين عاماً، كنت وإياه نتقاسم الفصل والمدرسة والأمل والألم،كنا في مقتبل العمر نحث الخطى نبحث عن ذواتنا وأحلامنا .
فرّقتنا الأيام وأعادنا زميل ثالث إلى التواصل عبر الواتس أب عبر دنيا التقنية وعالمها الافتراضي المقيت، أقول المقيت لأنني أعدت تجسير علاقتي بهذا الإنسان من خلال العواطف الرقمية والصور الديجتلية،كنا نتواصل في المناسبات وأوقات الفراغ من خلال رسائل فارغة من المشاعر الإنسانية، حتى ضحكاتنا وتعليقاتنا في ذلك القروب كانت ولا تزال مؤطرة بالرسمية والسطحية وقتل الوقت.
العالم الافتراضي هو دنيانا الجديدة التي نعيش فيها، عالم رقمي مادي بعيد كل البعد عن المضامين الإنسانية الجميلة، عالم يشغلك ويجعلك أسيراً لقوانينه المادية الصرفة والتي تجعلك بعيداً عن الناس وفي الوقت ذاته قريباً منهم .
القرب يتمثّل في معرفة أخبارهم، إنجازاتهم، أفراحهم، وأتراحهم، لكنه قرب مفرغ من العاطفة من الصدق من الإحساس .
هذه الدنيا الافتراضية أعادت صياغة بعض المشاعر الإنسانية بما فيها الحب فقد اختزل في هذا العالم
ليصبح مجرد صور وكلمات تنسخ من مكان وتلصق وترسل لمستقبل جديد، أصبح الكثيرون متعددي المشاعر كالأجهزة المؤتمتة المتعددة الأنظمة، فالإنسان يحب هنا ويتجلّى بالعاطفة الصادقة هناك، يبغض في مكان آخر ويتجاوز الأعراف الإنسانية ليفسح المجال لشيطانه أن ينفس عن ذاته ويظهر خبثه وخبثه .
نحن نعيش في عالم رقمي بغيض، فالمادة رقم والحضور رقم والمشاعر رقم.
هنا يتجرد الواحد من إنسانيته من شعوره ومشاعره، تصبح حياته مادية من المهد إلى اللحد .
نتواصل نتحدث نفهم نسمع ونرى ولكن بمشاعر منزوعة من التواصل الإنساني الحقيقي والعواطف الجياشة . إنه تواصل مكذوب ومزيف فارغ من العواطف لا نعي حقيقته إلا في المنعطفات الحياتية الحرجة، ولأن المقبرة منعطف بين حياتين كانت فرصة لي وللآخرين لإعادة ترميم علاقاتنا الإنسانية وتجسيرها بالتواصل المباشر بعيداً عن آلات العصر وتقنياته السريعة والرخيصة المضمون المنزوعة الحب والصدق والولاء .
- علي المطوع