بعد المقدمة السريعة التي أوردناها في الجزء السابق، نبدأ اليوم بالأسرة والمجتمع، قبل أن نتعمّق -في الأجزاء القادمة- في الناحية السياسية، ثم في الفلسفة الدينية المصرية القديمة.. وأول الملاحظات هي أن مجتمعهم كان يُشجّع على الزواج المبكر ومن ذلك مثلا قول حكيمهم «بتاح» وزير الملك التاسع من الأسرة الخامسة، وهو ينصح ابنه: «إذا أصبحتَ رشيدًا فأسّسْ لنفسك بيتًا، واتخذ لنفسك زوجة، وأحبب زوجتك في حدود العرف، أو عاملها بما يستحق». وكذلك قول حكيمهم الآخر: «اتخذ لنفسك زوجة حين تبلغ العشرين، حتى يتأتى لك الخلف وأنت في معية الشباب».
بالإضافة إلى أن مجتمعهم -كما يقول الدكتور أحمد أمين سليم، في كتابه دراسات في حضارة الشرق الأدنى القديم- كان يتحفّظُ على العلاقة بين الفتى والفتاة قبل الزواج، ولذلك يُبكّرون جدًا في تزويج أبنائهم. وكانت عقود الزواج تتم مشافهة في البداية بين كبار الأسرتين، ثم تطوّرتْ إلى نصوص مكتوبة. وفي ليلة الزفاف كانت تُنحر الذبائح للولائم وتُعزف الموسيقى ويمرحون ويلهون. وألزموا الزوج بواجبات يلخصها قول الحكيم «بتاح» لابنه: «أشبعْ جوفها واسترْ ظهرها، وعطرْ بشرتها بالدهان، وأسعدْ فؤادها طيلة حياتك، فهي حقل مثمر لسيّدها».
وأما الزوجة فكانت مهامها متعلقة بالمنزل وإدارته، من إعداد الطعام وغسل الملابس وما شابه. وكان تعدّدُ الزوجات عندهم معروفاً وموجودًا، خاصة للضرورات، كأن تكون المرأة مريضة أو عاجزة عن الإنجاب وما شابه، بالإضافة إلى حرصهم على التعدّد في حالة الحرب، حين يكثر الأرامل من النساء. وقد عبّرتْ كثيرٌ من حكمهم ووصاياهم على أن السعادة مرتبطة بكثرة إنجاب الأطفال!.
أمّا بالنسبة للقانون والأخلاق، فقد أجاد «ديورانت» الحديث عن ذلك في صفحات متفرقة من كتابه قصة الحضارة، وحاولتُ اختيار مقتطفات من أبرز وأجمل ما ذكره وتسليط الضوء عليه بتصرّف يسير منّي في الاختصار والصياغة، ومن ذلك أن القوانين المدنية والجنائية في مصر القديمة كانت راقية جدًا ودقيقة ومفصّلة، فالناس متساوون مساواة تامة أمام القانون. ومن ذلك أيضًا ما ذكره في موضع آخر، مِن أنّ أقدم وثيقة قانونية في العالم كلّه هي عريضة دعوى مصرية قديمة محفوظة الآن في المتحف البريطاني تعرض على المحكمة قضية من قضايا الميراث المعقدة.
وكان القضاة يطلبون أن يُترافع في القضايا، وأن يُردّ على حجج المترافعين، وأن يُناقش أصحابها ويحاجّون، في مذكرات مكتوبة تقدّم للقضاة.
ومن ذلك أيضًا ما ذكره ديورانت، حول الحانث في يمينه، الذي كانوا يعاقبونه بالإعدام، وحول التعذيب في بعض الأحيان، الذي كانوا يلجؤون إليه لحمل المجرم على الاعتراف بالحق. وكان الضرب بالعصا من أنواع العقاب الشائعة، وكذلك عقاب المذنب بجدع أنفه أو قطع يده أو لسانه، أو نفيه إلى أقاليم معينة، أو شنقه، أو إحراقه مصلوبًا.
ومن أشد أشكال العقاب تحنيط المعاقب حياً، أو إحاطته بطبقة من النطرون القارض تأكل جسمه أكلاً بطيئاً.
وكقوله أيضًا عن أخلاقهم: كان الملك يتزوج أخته، وأحيانا يتزوج ابنته، ليحتفظ بالدم الملكي نقيًا خالصًا من الشوائب. ثم انتقلتْ عادة الزواج بالأخوات من الملوك إلى عامة الشعب!. كما أن نقوشهم تصوّرُ النساء يأكلن ويشربن بين الناس، ويقضين ما يحتجنه من المهام في الشوارع من غير رقيب عليهن، ويمارسن الأعمال الصناعية والتجارية بكامل حريتهن.
كما حثّتْ حكمهم على بر الوالدين، فنجد -مثلا- في «بردية بولاق» تحذيرًا للطفل حيث تقول البردية: «ينبغي لك ألا تنسى أمك فقد حملتك طويلا في حنايا صدرها وكنت فيها حملا ثقيلاً؛ ثم حملتك على كتفها سنوات طويلة وأرضعتك ثديها، وغذتك، ولم تشمئز من قذارتك. ولمّا دخلتَ المدرسة وتعلّمتَ الكتابة كانت تقف في كل يوم إلى جانبك وجانب معلميك.
نتوقف هنا الآن، ونستفتح الجزء القادم بالحديث عن الناحية السياسية في مصر القديمة.
- وائل القاسم