أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
عرضنا في الحلقة السابقة قراءةً عميقة للفصول الثلاثة من كتاب: (السلفية حقيقتها وأصولها وموقفها من التكفير «دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب أنموذجاً»)، تأليف معالي الشيخ الأستاذ الدكتور: سليمان بن عبدالله أبا الخيل، مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعضو هيئة كبار العلماء، ورئيس المجلس التنفيذي لاتحاد جامعات العالم الإسلامي، وسنستمر في هذه الحلقة بعرض بقية فصول هذا الكتاب المهم الذي يواكب المرحلة ويخدم رؤية المملكة ورسالتها، وتتأكد أهمية هذا الكتاب في تأصيله العلمي الدقيق لكل ما يتعلق بالسلفية وما يتصل بها من قضايا.
يواصل مؤلف الكتاب معالي الأستاذ الدكتور سليمان أبا الخيل، حديثه عن الدعوة السلفية من جوانب عدة، ليقف في الفصل الرابع على الدعوة السلفية والمرأة، ليكشف في المبحث الأول عن: حقوق المرأة المدنية والاجتماعية، ليبين موقف المنهج السلفي من المرأة بقوله: والمنهج السَّلفي هو المنهج الرباني في نشر مبدأ كرامة المرأة، وقد صرح أئمة الدعوة قاطبة بحقوق المرأة المدنية والاجتماعية، وكانوا يقاومون كل المظاهر المخالفة لذلك، وعلى رأسهم الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في بعض رسائله، وطلابه من بعده، وكانوا رحمهم الله يحاربون كل أشكال العنف والتميز والتنقيص ضد المرأة، فالمنهج الإسلامي يتّبع الفِطرة في تقسيم الوظائف والأنصبة بين الرِّجَال وَالنِّسَاء، والفطرة جعلت الرَّجُل رَجُلاً والمرأة امرأة، وأودعت كل منهما خصائصه.
ويبيَّن د. أبا الخيل حق المرأة في الكسب والعمل مع وافر الحشمة، بقوله: الإسلام دين العمل والجد والاجتهاد ودين البذل والعطاء وحث على العمل، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (105) سورة التوبة.
والناس في الإسلام متساوون في حق العمل والكسب كما أعطى كل فردٍ الحق في أن يزاول أي عمل مشروع يروق له وتكون لديه الكفاية للقيام به.
وتكمن أهمية الدراسة للمملكة العربية السعودية في ثلاث اعتبارات:
أولاً: تمثل المملكة العربية السعودية قبلة المسلمين، ومهوى أفئدتهم، إذ تضم الحرمين الشريفين ولها بذلك الثقل الدِّيني والسِّياسي المؤثر والموجه لمعظم أحداث العالم.
ثانيًا: تحتفظ هذه المنطقة «بالأصالة» والمحافظة على القيم والمبادئ الإسلامية، أكثر من غيرها من المناطق، حيث لم تدنسها أقدام الاستعمار ولم تكن أرضها -ولن تكون إن شاء الله- ذلولًا للتيارات المنحرفة بقدر ما هو الحال في بعض البقاع، وستبقى باقية الخير ما بقي المخلصون من أبنائها وحكامها بإذن الله تعالى.
ثالثًا: بالإضافة إلى إستراتيجية الموقع وحيويته يحتل اقتصاد المملكة العربية السعودية مكانة مرموقة بين اقتصاديات العالم.
تلك أهم ملامح الدراسة التي تثير اهتمام كثير من الباحثين بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم.
بعد ذلك يلقي د. أبا الخيل الضوء على مجالات عمل المرأة في المملكة العربية السعودية ليدعم حديثه بإحصائيات وأرقام دقيقة، يقول:
يتركز عمل المرأة السعودية والخليجية -بصفة أساسية- في البيت أي أنها ربة بيت بمعنى الكلمة، تعي دورها الذي رسمه دينها الحنيف، وتقدر مسؤوليتها وهي بذلك تمثل النموذج الأول للمرأة المسلمة في هذا العصر.
ولقد شاركت المرأة السعودية -بالإضافة إلى رعايتها لشئون البيت- في النهوض بأعباء خدمة المجتمع، فنراها تساهم في القطاعات المختلفة التالية:
الرئاسة العامة لتعليم البنات، حيث بلغت نسبة المعلمات السعوديات في العام الدراسي 1427/ 1428هـ 218 ألف معلمة، يُدرِّسن 2.1 مليون طالبة يدرسن في 12.600 مؤسسة تعليمية.
الجامعات السعودية، نجد الحاجة ماسة إلى المرأة السعودية ومازالت هيئات التدريس بكلية البنات بحاجة للسعوديات، سواء من الناحية الأكاديمية، أو الناحية الإدارية والفنية.
الإدارة العامة لكليات البنات، وكان عدد الوظائف بها قد وصل عام 1427هـ (8470) وظيفة.
الخدمات الاجتماعية، وتتمثل في الجمعيات الخيرية ومن أعمالها رعاية السجينات والإشراف على ملاجئ العجزة وإقامة المعارض النسوية، ورعاية معاهد الأمل للصم والبكم.
مجال الخدمات العلمية الأخرى، كالبرامج الوقائية والتَّمريض وجمعية الهلال الأحمر السَّعودي، وقد خرجت معاهد التمريض النسوي المنتشرة بالمملكة في كل من مكة والرياض وجدة والهفوف والطائف وجيزان إلى العام الدراسي 1428هـ أكثر من (26000) طالبة.
مَجال الإعلام، حيث خصص للمرأة صفحات في صحف المملكة ولهن الإسهامات الإعلامية في الإذاعة وغيرها.
مَجال الأعمال المصرفية «البنكيَّة» حيث انتشرت مؤخرًا البنوك النسوية.
المطلب الثاني: سمات عمل المرأة السعودية
يتضح مما سبق أن عمل المرأة السعودية اتسم بعدة ميزات تفرق بينها وبين غيرها من النساء في شتى بقاع العالم الإسلامي من حيث العمل خارج البيت أبرزها:
انعدام الاختلاط، فعملهن بعيد عن الرجال، وهذه ميزة تنفرد بها المرأة السعودية اليوم من بين سائر نساء المسلمين، وأنها لمنقبة يسجلها التاريخ المعاصر، نسأل الله أن يوفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.
وتناسب الأعمال للمقدرات النسوية، فمازالت المرأة السعودية بعيدة عن الأعمال الرجالية والمهن الشاقة، حيث تنص المادة (160) من نظام العمل بالمملكة على أنه.. «لا يجوز تشغيل المراهقين والأحداث والنساء في الأعمال الخطرة.. لا يجوز بحال من الأحوال اختلاط النساء بالرجال في أمكنة العمل وما يتبعها من مرافق».
ونظرة المجتمع المتحفظة والمشفقة إلى عمل النساء خارج بيوتهن.. فالأسرة السعودية أسرة مسلمة متماسكة، تعي نطاق عمل المرأة الذي تقدر عليه ويناسبها كالتعليم وغيره.
وانبثاق القوانين والأنظمة الخاصة بعمل المرأة من القاعدة الإسلامية المثلى، وعلى هدي كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، وأنها لمنقبة تنفرد بها هذه البلاد في هذا العصر المضطرب، ولقد جاء في أولويات أهداف خطة التنمية الرابعة للمملكة «كالخطط السابقة لها» ما نصه: «المحافظة على القيم الإسلامية، والدفاع عن الدين والوطن في مقدمة الاهتمامات».
ونختم ذلك بكلمة معالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ وزير التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية سابقًا وأحد رجالات التربية، قال رحمه الله عن رسالة المرأة: «هي بناء الأسرة، وإدارة المنزل حتى تعيش مع أسرتها في جو هادئ يبعث على النشاط المطلوب لاستمرار الحياة، ولا يمنع من ذلك أن تعمل في حال احتياجها أو رغبتها في المجالات التي يمكنها أن تؤديها بلا مخالفة لطبيعة تكوينها وواقع استعدادها.. إن أي خروج عن الطبيعة التي خلقها الله لنا وأودع فينا الاستجابة لانطلاقها يعتبر تعطيلاً لحكمة الله في الخلق، وسببًا لكثير من الآلام النفسية والحسية، ومؤدي لكثير من المتاعب التي يعيشها الناس، ولا سبيل إلى دعوة السعادة وهناءة الحياة وسكينتها إلا بالإذعان لحكمة الله وبديع خلقه، وممارسة الحياة كما أرادها الله ويسرها».
وعندما نودي بخروج المرأة الغربية للعمل في كل الميادين دون استثناء بحجة تحرير المرأة ومساواتها بالرَّجل، أخذ الناس في بعض دول الشرق ينادون بنفس الدعوة، متجاهلين أسمى خصائص المرأة ووظيفتها الأساسية ودورها الطبيعي في الحياة.
وكانت حجج أصحاب هذه الدعوات كثيرة لإقناع المرأة بالخروج إلى العمل في كل المجالات منها:
- أنَّ الرَّخاء لا يكون إلاَّ بكثرة الأيدي العاملة وبما أن المرأة نصف المجتمع فإن نصف المجتمع معطل إذا لم تخرج للعمل.
- أن العمل يوسع أفاقها ومداركها ويزيد من ثقافتها.
- أن العمل يزيد من دخل الأسرة.
ويكفي الرد على مثل هذه الشبه التي تثار بين الفينة والأخرى أن تكون من المرأة نفسها، ومن مجتمع قد اكتوى بآثار هذه الدعوة وجربها، تقول الكاتبة الإنجليزية «آنى رود» عن ذلك: « أيا ليت بلادنا كبلاد المسلمين حيث فيها الحشمة والعفاف والطهارة. نعم إنه عار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطتهن للرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل ما يوافق فطرتها الطبيعية كما قضت بذلك الديانة السماوية وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها».
أما الحديث عن حقوق المرأة الدينية والسياسية فقد كان له نصيب من هذا الكتاب، يقول معالي الشيخ الدكتور سليمان أبا الخيل: يقرر الإسلام أهليَّة المرأة للتَّدين وتلقي التَّكاليف الشَّرعية بنص القرآن والسنة، فالمرأة مكلفة كالرجل تمامًا وذلك في الأمور الآتية:
أولاً: أهلية التكليف..
المرأة أهل للتكليف الشرعي.
1 - توفر شروط التكليف فيها وهي: الإسلام - البلوغ - العقل.
2 - نداءات القرآن الكريم المكية والمدنية منها تشمل الرجال والنساء على حد سواء.
3 - آيات القرآن الكريم توضح مساواة الرجال والنساء في التكليف.
4 - الدعوة إلى الله واجبة على الرجل والمرأة.
ثانيًا: قيامها بالفرائض والنوافل «الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج».
ثالثًا: المسؤولية والجزاء.
رابعًا: موقفها الشرعي في الحدود والقصاص.
التكليف الشرعي الإسلامي: المرأة تمامًا مثلها مثل الرجل، مكلفة شرعًا بنفس الأحكام الشَّرعية من أركان الإسلام الخمسة. «مع وجود رخص خاصة بها بسبب خلقتها» مكلفة بجميع الأمور الأخرى وتجري عليها نفس العقوبات الدنيوية. وهي مكلفة تمامًا بعدم الاختلاط مع الرجال.
وحيث يجعلها هذا الاختلاط رخيصة ويفقدها العفة والمنعة الأخلاقية.. ومع فقدان هذه الأمور تصبح حياتها، وحياة الرجل كذلك قطعة من العذاب. إلى جانب فساد الرجل.. وفساد العلاقة الفطرية والميزان الأخلاقي في نفسيهما وبالتالي دمار هذا الإنسان.
ويبيّن د. أبا الخيل الحقوق السياسية للمرأة بقوله: الإسلام دين الحق الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى للبشرية، ينظر إلى المرأة ويعاملها على أنها أحد شقي الإنسانية، ويعلم أثرها في الحياة السياسية، وأعطاها من الحقوق ما يكفل لها حياة كريمة ومن تلك الحقوق.
حق إبداء الرأي: الشورى أساس من الأسس الأصيلة في المجتمع الإسلامي وهي الأسلوب المثالي الذي وضعه الإسلام لإقامة مجتمع سليم قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (38) سورة الشورى.
حق الحماية والرعاية للمرأة المسلمة المهاجرة: أعطى الإسلام المرأة المسلمة المهاجرة التي خرجت من بلدها فرارًا بدينها حماية ورعاية، وأضاف بذلك حقًا جديدًا إلى قائمة الحقوق الكثيرة التي منحها إياها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (10) سورة الممتحنة.
حق البيعة
تطبيقًا لمبدأ العدالة بين الرجل والمرأة في الإسلام كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء كما يبايع الرجال على الإيمان والسمع والطاعة.
وقد يبايعهن الرسول -صلى الله عليه وسلم- على عدة أمور:
أن لا يشركن بالله شيئًا, ولا يسرقن, ولا يزنين, ولا يقتلن أولادهن, ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين الرسول -صلى الله عليه وسلم- في معروف.
ويقف د. أبا الخيل عند بعض الأمثلة لمشاركة المرأة في الأعمال النافعة، يقول: أمثلة لمشاركة المرأة في الأعمال النافعة:
إنَّ في واقع تاريخنا أمثلة حية لمشاركة المرأة في جميع الأعمال النافعة، حتى في مقارعة الأبطال، ومجالدة الأعداء بأدوات القتال، فغالية البقمية كان لشجاعتها وقيادتها الأثر العظيم في مؤازرة أئمة الدعوة حتى انهزم جيش طوسون بن محمد علي باشا في وقعة تربة سنة 1229هـ (1813م)، ثم تصدت مع المجاهدين لحرب جيش محمد علي -حين غزا تربة؛ ليثأر لهزيمة ابنه - بشجاعة نادرة، أثارت حفيظة الباشا الذي تمنى أن يقدر على إمساكها بعد انهزام جيشها وذهابها إلى الدرعية سنة 1230هـ بعد هزيمة وقعة بسل، وقال عنها المؤرخ المصري محمود فهمي المهندس في كتاب: «البحر الزاخر»:
«وتكدر محمد علي باشا كثيرًا من هرب غالية ونجاتها من يده؛ لأنه في اشتياق زائد لإرسالها إلى القسطنطينية، علامة وشهرة على نصره وظفره».أهـ
وأمَّا السَّيدة الجليلة موضي زوجة الإمام محمد بن سعود فقد كانت راجحة العقل بالغة الحكمة والتَّصرف، وقد ظهر شيء من رجاحة عقلها حين انتقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب من العيينة إلى الدِّرعية سنة 1157هـ مُكرهًا، وقد فصَّل ابن بشر في ذلك فقال: «فعلم به خصائص من أهل الدرعية، فزاروه خفية، فقرر لهم التوحيد، فأرادوا أن يخبروا محمد بن سعود، ويشيروا عليه بنزوله عنده ونصرته، فهابوه، وأتوا إلى زوجته وأخيه ثنيان الضرير، وكانت المرأة ذات عقل ودين ومعرفة، فأخبروهما بمكان الشيخ، وصفة ما يأمر به وينهى عنه، فوقر في قلبيهما معرفة التوحيد، فلما دخل محمد بن سعود على زوجته أخبرته بمكان الشيخ، وقالت له: إن هذا الرجل ساقه الله إليك، وهو غنيمة، فاغتنم ما خصك الله به، فقبل قولها، ثم دخل عليه أخوه ثنيان وأخوه مشاري، وأشارا عليه بمساعدته ونصرته»، ثم كان من أمر الإمامين ما هو معروف.
أما الفصل الخامس والأخير من هذا الكتاب القيّم، فهو بعنوان: (منهج الدعوة السلفية في التكفير وموقفها منه ورؤية الناس لذلك).. ويفتتح د. أبا الخيل هذا الفصل بتمهيد عن تعريف الكفر لغة وشرعاً، ليبين منهج أئمة الدعوة السلفية في التكفير بقوله: لاشك أن التكفير بغير ضوابطه الشرعية ظاهرة قديمة نشأت أول ما نشأت في الإسلام على يد الخوارج، ثم ما زال يخرج في المسلمين في كل عصر من يتبنى هذا المذهب البدعي الخطير، ثم تجدد هذا الاتجاه في هذا العصر على أيدي بعض الغلاة في صفوف المسلمين «خوارج العصر» ليجسد مظهرًا من مظاهر الغلو في الدين الذي ابتليت به الأمم السابقة فكان سببًا في هلاكها كما أخبر بذلك المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وحذر منه أمته حين قال: «وإياكم والغلو ؛ فإنما أهلك من كان من قبلكم الغلو في الدين».
ولقد كان لهذا الاتجاه أعظم الأثر على الأمة، من إيقاد جذوة الفرقة والاختلاف في صفوفها، ومن العدوان وسفك الدماء واستباحة الأموال والأعراض، وقطع الطريق وإخافة الناس ما لا يحصى كثرة وخطورة، فضلاً عما أفضى إليه من التأويلات وحمل الألفاظ الشرعية على غير ما قصد منها، حيث فتح بابًا للطوائف والفرق، فصار عامة أهل البدع يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه، ولا يرجعون فيما يتنازعون فيه إلى الله ورسوله ولا إلى الصحابة وأئمة المسلمين.
ولا شك أن ما نعانيه اليوم من دعاوى تكفير الأمة والتشكيك في إسلامها ما هو إلا مظهر متجدد لما سبق، وإن قال به الأقدمون من الخوارج الذين حذر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من منهجهم، وأخبر الأمة بأوصافهم وما يتعين فعله معهم، حفاظًا على كيان الأمة ووحدتها، وسلامة أفرادها ومجتمعها.
ولقد نبه العلماء إلى خطورة إطلاق الحكم على الأشخاص بكفر أو فسق أو نحوهما، أو الحكم على معين بجنة أو نار بدون دليل، قال ابن حجر -رحمه الله- وعزاه إلى الغزالي: «والذي ينبغي الاحتراز منه التكفير ما وجد إليه سبيلاً؛ فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم المسلم».
ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: «فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون علماء المسلمين لما يعتقدون أنهم أخطؤوا فيه من الدين».
وإذا كان هذا من الأمور المُسلَّمة عند علماء الأمة وأئمتها فإن أئمة الدعوة السلفية ودعاتها كانوا في طليعة من يحذر من الخوض في هذه المسألة دون بصيرة وعلم، وفي هذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- مبينًا فقه الإنكار في بعض المسائل وواجب التثبت وعدم إهدار المحاسن لخطأ واقع أو متوهم: «ومتى لم تتبين لكم المسألة لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبين لكم خطؤه، بل الواجب السكوت والتوقف، فإذا تحققتم الخطأ بينتموه، ولا تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة، أو مائة، أو مائتين»، وهذا في مسائل هي فيما دون الكفر، فكيف بإطلاق الكفر على من لم يتبين استحقاقه لهذا الحكم.
إن الكفر حكم شرعي ليس من الأحكام التي يستقل بها العقل، بل هو محض حق لله ورسوله ، «فالكافر من جعله الله ورسوله كافرًا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقًا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنًا ومسلمًا، والعدل من جعله الله ورسوله عدلًا، والمعصوم الدم من جعله الله ورسوله معصوم الدم، والسعيد في الآخرة من أخبر الله ورسوله عنه أنه سعيد في الآخرة، والشقي فيها من أخبر الله ورسوله عنه أنه شقي فيها، والواجب من الصلاة والصيام والصدقة والحج ما أوجبه الله ورسوله، والمستحقون لميراث الميت من جعلهم الله ورسوله وارثين، والذي يقتل حدًا أو قصاصًا من جعله الله ورسوله مباح الدم بذلك، والمستحق للفيء والخمس من جعله الله ورسوله مستحقًا لذلك، والمستحق للموالاة والمعاداة من جعله الله ورسوله مستحقًا للموالاة والمعاداة، والحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله».
وإذا كان الأمر بهذه الخطورة والأهمية وجب ألا يتصدى له إلا أهله، ذوو الاختصاص من العلماء الربانيين، الذين ينطلقون في أحكامهم من قواعد ثابتة، لا عواطف مجردة.
وهذا هو الذي سار عليه أئمة الدعوة السلفية قديمًا وحديثًا، غير أن هذا لا يعني أنهم يجبنون عن إطلاق الحكم على مستحقه، متى ما توفرت شروط انطباقه، وانتفت موانعه، وشواهد ذلك في المنقول عنهم ناصعة في الدلالة على التورع عن إطلاق الحكم بالكفر على المخالفين، إلا إذا استحقوا ذلك واستوجبوه.
وسنورد جملة من النقول عنهم في الدلالة على ما ذكرناه يبين وعيهم وإدراكهم وفقههم في هذه المسألة.
أولاً: شواهد في الدلالة على براءتهم من منهج الخوارج وإنكارهم له:
ومن تأمل ما كتبه الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- وألفه من المصنفات والرسائل وقف على حقيقة معتقده، وأنه لا يدعو إلا لعقيدة السلف الصالح، بل إن سيرته وأفعاله وسلوكه شاهدة على ذلك، وأنه وأتباعه على منهجه من أبعد الناس عن منهج الخوارج الغالي في الخروج على الأئمة والتكفير.
ففي إحدى رسائل الشيخ وهو يجيب على سؤال أهل القصيم لما سألوه عن معتقده، كان مما قاله: «أُشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم: أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره ؛ ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله من غير تحريف ولا تعطيل فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا أٌلحد في أسمائه وآياته، ولا أكيّف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه؛ لأنه تعالى لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه.
والفرقة الناجية: وسط في باب أفعاله تعالى، بين القدرية والجبرية ؛ وهم وسط في باب وعيد الله، بين المرجئة والوعيدية؛ وهم وسط في باب الإيمان والدين، بين الحرورية والمعتزلة؛ وبين المرجئة والجهمية؛ وهم وسط في باب أصحاب رسول الله بين الروافض، والخوارج.
ولا أُكفر أحدًا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام.
وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته؛ وحرم الخروج عليه».
وكما أوضح د. أبا الخيل في هذا الفصل موقف أئمة الدعوة السلفية من التكفير، ومنهجهم الوسطي في هذا الأمر، ليبين بعد ذلك أقسام الناس في رؤيتهم للمنهج السلفي في التكفير، ويقع هذا الكتاب في 632 صفحة، ويحوي مادة علمية موثقة ودقيقة، تحتاجها المؤسسات التعليمية والجامعات ووسائل الإعلام، وضرورة ترجمته إلى مختلف لغات العالم.