مها محمد الشريف
خلال الأيام الماضية عاشت «جدة» واقع الثقافة، وما زالت تعيش تظاهرة المعرض الثاني للكتاب المقام على أرضها، الذي سينتهي يوم 25 ديسمبر. وبعيدًا عن أي حسابات للربح والخسارة، والمبيعات، وآلية التنظيم، شهد المعرض مرحلة تطورية للمثقف الناضج، والوصول إلى نموذج مشترك بين أفراد الأُسر ومعرض الكتاب الذي توافدت إليه للتسوق الممتع بمزيج متناغم من الحراك الثقافي والمعرفي، وسط أجواء يغمرها الفرح والتلاحم.
فمن ناحية أخرى يمكن التعرف على الدول المشاركة وعددها، الذي وصل هذا العام إلى ثلاثين دولة في معرض جدة للكتاب. وتشهد فعالياته عددًا من الندوات والأمسيات الرئيسية، إضافة إلى ورش عمل متنوعة في جوانب التصوير الضوئي وتنمية مهارات وثقافة الطفل والكتابة الإبداعية للأطفال، وعدد من الروائيين لما للرواية من جماهيرية وقراء. وتميز المعرض هذا العام بزيادة عدد الشاشات لتسهيل عملية البحث.
وتشهد النسخة الحالية انضمام 4 دول جديدة للمعرض، هي (باكستان، سلطنة عمان، ألمانيا وماليزيا)، وسط توقعات بأن تتجاوز قوته الشرائية 100 مليون ريال. علينا أن نبتعد عن أي حسابات أخرى، ونقف طويلاً أمام هذه الحالة، ونجتهد لمعرفة أسبابها.
هذه الحشود التي تخصص جزءًا من وقتها لزيارة المعرض من أجل الكتاب لم تأتِ من أجل الاستعراض أو التفاخر. هناك حاجة ملحة وعطش للمعرفة.. ووعي بدأ ينمو بسرعة لدى الأجيال. ومعرض جدة جاء ليلبي ويشبع هذه الرغبة. وهذا ليس بغريب علينا كمجتمع يتقبل الثقافات المتنوعة، ولا يخشى الانفتاح على الآخر متى ما وجد الأرض الخصبة.
معرض الكتاب هو أحد السبل التي من خلالها نستطيع تنمية الوعي لدى شريحة كبيرة من المجتمع. القراءة هي البوابة الأولى والمهمة للتزود بالمعارف. فكيف لو كان لدينا أنشطة مسرحية منتظمة في كل المناطق، وفعاليات سينمائية تدار بعقول واعية كتلك التي تنظم في الجوار القريب منا؟
ففي كل المجتمعات يناقش الباحثون ماهية عمل الثقافة في تطوير المجتمع، وتنميته، كما يبحثون عن الدور الذي تلعبه الثقافة في النهضة الحضارية الشاملة لأمة من الأمم وسيادتها؛ إذ لا بد لنا أن نواكب آمالنا أكثر في عصر التكنولوجيا؛ لأن المتفق عليه أن النهضة الثقافية تسيرها جملة من المكتسبات؛ لتشكل همزة وصل بين الأجيال.
إن الأمر برمته يعد عملية تكاملية، تكتمل فيها الدورة الثقافية وعدم توقفها عند نقطة ما، دون تردد عطفًا على مبدأ المسؤولية الثقافية الفعلية.
معرض الكتاب كان ملمحًا يدعو للتفاؤل.. الكبار والصغار يأتون وهم يحملون قوائم معدة مسبقًا لكتبهم المفضلة. هذا دليل لا يدعو للشك على أن الخطوات القادمة يجب أن تأتي سريعًا؛ لتسهم إلى جانب معارض الكتب في تنمية واستثمار العقول قبل أن يأتي أحد ويخطفها بعيدًا عن المسار التي خلقت من أجله.
يرى «موران» أنه من الضروري انتظار قدوم نمط جديد من الناس، لا يملؤون الفراغ الذي حققه اندثار غيرهم، بل يبذلون الجهد من أجل تغيير بنية التفكير بالانفتاح على العالم من خلال المواجهة والنقاش والتبادل.
وما نطمح له من هذه الرؤية التقنية العقلانية ليتجاوز التخبط الذي يعايشه المخلوق البشري، والحث على إدراك التوحد السلمي والتعايش وممارسة النشاط الفكري للارتقاء، ولإحياء الحضارة والعمران.