فضل بن سعد البوعينين
نجحت الحكومة في تقديم ميزانيتها بشفافية مطلقة للإعلام؛ المختصين؛ والمواطنين؛ وأسهمت في نشر الوعي المالي من خلال وزارة المالية التي تمكّنت من تبسيط البيانات المالية المعقدة وتقديمها للمواطنين من خلال حسابها على موقع «تويتر» أو موقعها الرسمي على شبكة الإنترنت. لم ترتبط الشفافية بأرقام الميزانية العامة؛ بل سبقتها باجتماعات موسعة لسمو ولي ولي العهد؛ رئيس مجلس الاقتصاد والتنمية؛ الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز؛ مع المختصين والمهتمين وأطياف المجتمع؛ ركز فيها على الشأنين المالي والاقتصادي إلى جانب الشؤون السياسية والعسكرية والمجتمعية وما يهم المواطنين؛ وحرص على تقديم رؤية اقتصادية بانورامية للسنوات الخمس القادمة؛ وبيانات مستقبلية ارتبطت ببرامج إصلاحية متنوّعة؛ وداعمة لتحقيق الأهداف. التغطية الاستثنائية لإعلان الميزانية؛ وتصدر الوزراء المعنيين للإعلام من خلال مؤتمر صحفي موسع جزء من الشفافية التي التزمت بها الحكومة. وإن كنت أتمنى أن يعطى الإعلام الوقت الكافي للتغطية من جانبين رئيسين؛ الأول موعد المؤتمر كي يتوافق مع قدرة الصحف المطبوعة على مواكبته؛ والثاني إتاحة الوقت الكافي للوزراء في تناولهم مواضيع الميزانية المهمة والإجابة على كافة أسئلة الإعلام؛ وهذا لا يمكن تحقيقه مع وجود عدد كبير من الوزراء المهمين في وقت واحد؛ وتشعب الموضوعات والاهتمامات؛ فوزير المالية كان في حاجة إلى مؤتمر مستقل تماماً عن الآخرين؛ والأمر عينه ينطبق على وزير الطاقة.
وزير المالية؛ محمد الجدعان؛ أسهم في تعزيز الشفافية بلقائه المختصين قبل المؤتمر الصحفي؛ وتقديمه البيانات التفصيلية والتعليق عليها ومناقشة الحاضرين حيالها بشفافية مطلقة لم تُعهد من قبل. تحولت بيانات المالية وأرقامها من سياسة «سري للغاية» إلى كتاب مفتوح يقرأه العامة قبل الخاصة وبلغة يفهمها الجميع. الوزير الجدعان أكد أن الوزارة قامت بإعداد تقرير شامل عن الميزانية وبلغة مبسطة خصصت لـ (غير المختصين) نشرت على موقع الوزارة على النت؛ ووعد بعقد لقاء ربع سنوي مع المختصين وبما يعزِّز مبدأ الشفافية ويضع الجميع أمام التطورات المالية المهمة في الوزارة.
اللافت في لقاء الوزير الجدعان غياب التحفظ في حضرة الأرقام والمؤشرات الدقيقة؛ وأهمها مستحقات المقاولين التي دفعت منها الحكومة 100 مليار قبيل إغلاق ميزانية العام 2016 مع الوعد بدفع ما تبقى منها خلال الأشهر القادمة؛ وأحسب أنها لن تتجاوز الربع الأول من العام الحالي. تأخر دفع مستحقات المقاولين كان سبباً في إعادة النظر بآلية المدفوعات الحكومية؛ وإيجاد نظام إلكتروني قادر على تلقي الطلبات وتنفيذ المدفوعات بعدالة وشفافية مطلقة؛ على أن لا تتجاوز مدة الدفع ستين يوماً من استكمال المستخلصات؛ وهو النظام المتبع في شركات لقطاع الخاص الكبرى. التزام المالية بدفع التزاماتها في فترة زمنية قصيرة سينعكس إيجاباً على حجم الالتزامات الحكومية؛ وتراكمها بشكل يؤثّر سلباً في قدرتها على الدفع؛ ويتسبب بأضرار فادحة للمقاولين الذين لا يستطيعون ضبط تدفقاتهم النقدية لتأخر المستحقات؛ هذا بخلاف الإضرار بالاقتصاد والقطاع المالي لأسباب مرتبطة بشح السيولة. يحسب للوزير الجدعان إشادته بنهج وزارة المالية التحفظي خلال سنوات الوفرة المالية؛ وتركيزها على سداد الدين العام وبناء الاحتياطيات المالية، حيث أسهم ذلك في تمكين الوزارة من المضي قدماً في الإصلاحات الهيكلية مع توفر أدوات العلاج. رغم التحفظات التي ووجهت بها إدارة معالي الدكتور إبراهيم العساف خلال العقد الماضي؛ إلا أن الوقت أثبت نجاعتها وتوافقها مع احتياجات دولة استمرت في الاعتماد على إيرادات النفط كمصدر وحيد للدخل. تُعنى وزارة المالية بإدارة أموال الدولة؛ في الوقت الذي تلعب فيه الحكومة والوزارات التنموية الدور الأهم في تحقيق أهداف الخطط الخمسية منذ إطلاقها؛ والمتضمنة بشكل صريح هدف «تنويع الاقتصاد ومصادر الدخل». ورغم تحفظ الغالبية؛ إلا أن المشروعات الاقتصادية الضخمة لم تكن لتنشأ لولا وجود صندوق الاستثمارات العامة الذي كان إلى عهد قريب؛ تحت مظلة وزارة المالية. وبالتالي يمكن القول إن التوازن المنضبط التقليدي في الإدارة المالية أسهم في حفظ الثروات والمشاركة في خلق المشروعات الاقتصادية الضخمة.
لم تتحرر «المالية» من تحفظها؛ وهو أمر طبيعي لكل من يتعامل مع ميزانيات الدول؛ وأحسب أن تحقيق ميزانية 2016 لأرقام أفضل مما كانت عليه التوقعات مطلع العام الحالي جاء بفضل الله أولاً؛ ثم بسبب الإجراءات المنضبطة التي اتخذتها الحكومة لتحقيق هدف ترشيد الإنفاق وكفاءته. نجح مكتب ترشيد الإنفاق الرأسمالي والتشغيلي في أداء دوره؛ وتحقيق وفر مالي قدِّر بحوالي 100 مليار ريال نتج عن مراجعة مشروعات حكومية مختلفة. أسهم التزام الحكومة بما وعدت به مطلع العام في تحقيقها أرقاماً أفضل من التوقعات؛ حيث انخفض الإنفاق بنسبة 1.8 % ليصل إلى 825 مليار ما يعكس التزام الحكومة بحجم النفقات والعمل على خفضه قدر المستطاع. وفي المقابل نمت إيرادات 2016 بنسبة 3 % لأسباب مرتبطة بالإيرادات غير النفطية؛ التي تضاعفت إلى نحو 200 مليار ريال؛ ما يعزِّز الثقة في قدرة الحكومة على تحقيق هدف رفع إيراداتها غير النفطية بحلول العام 2020. خفض الإنفاق تسبب في بعض الانعكاسات السلبية؛ إلا أنها تبقى أقل تأثيراً من انعكاسات التوسع المالي الذي قد يقود إلى هزات عنيفة ودائمة للاقتصاد. تحقيق هدف الاستدامة مقدم على الإجراءات الوقتية التي يقتصر فيها الأثر الإيجابي على وقت محدد.
تقلص العجز عن الأرقام الأولية بنسبة 9 % ليصل إلى 297 مليار ريال من مؤشرات الانضباطية المالية؛ التي ستكون من أساسيات العمل المستقبلي، حيث تهدف الحكومة إلى تقليص العجز بنهاية العام 2017 بحوالي 33 % ليصل إلى 195 مليار ريال؛ ما يعزِّز الوصول إلى التوازن المالي بحلول العام 2020. وعلى الرغم من التركيز على خفض العجز؛ إلا أن الحكومة سترفع من حجم إنفاقها ليصل 890 مليار، حيث من المتوقّع أن تذهب الزيادة إلى الإنفاق الاستثماري لتلافي الانعكاسات السلبية التي حدثت العام 2016. هناك تفاؤل أكبر بارتفاع أسعار النفط؛ وارتفاع الإيرادات غير النفطية أيضاً؛ يظهر ذلك في حجم الإيرادات التقديرية المحددة بـ 692 وإن كنت أعتقد أن نمو الإيرادات النفطية ربما كان أعلى من التوقعات بسبب اتفاقية خفض الإنتاج التي ستظهر نتائجها خلال الربع الأول من العام القادم.
أجزم أن الجهود المبذولة لتحقيق كفاءة الإنفاق ساعدت في تحقيق هدف الانضباطية المالية التي أسهمت في خفض العجز؛ والالتزام الحكومي؛ ما يدعو إلى التفاؤل بتحقيق الاستدامة المالية؛ وتوازن الميزانية قبل موعده؛ وحماية الاقتصاد من الانعكاسات الحادة المرتبطة بمتغيّرات أسواق النفط.