د.عبدالله مناع
اختتم معرض جدة الدولي للكتاب.. دورته الثانية مساء يوم الأحد الماضي.. بعد أن تولت الإشراف على إعداده وتنفيذه (لجنة عليا) برئاسة محافظ جدة الأمير مشعل بن ماجد بن عبدالعزيز وعضوية عدد من مدراء فروع الوزارات في جدة.. إلى جانب غرفة جدة التجارية الصناعية، وشركة الحارثي - صاحبة الخبرة في إقامة معارض الكتاب في جدة - لتتولى الجانب الاستثماري للموقع.. بتأجيره على الناشرين وغيرهم.. باستثناء فرع وزارة الثقافة والإعلام في جدة، الذي لم يُمثل في هذه اللجنة العليا، وقامت وكالتها للشؤون الثقافية في (الرياض).. بتشكيل اللجنة الثقافية للمعرض لتتولى صياغة برنامج فعالياته الثقافية من الأمسيات والندوات والمحاضرات.. بينما يتولى فرع الوزارة في جدة (الجانب الرقابي) للكتب التي جاء بها الناشرون إلى المعرض، وقد كنت أظن أن مراقبي (الفرع) في جدة.. سيطبقون تلك القاعدة الذهبية التي تم تطبيقها بنجاح في معرض الرياض الدولي للكتاب في آخر دوراته التي حضرتها.. من قبل، وتم تطبيقها في (جدة) العام الماضي، وهي التي عُرفت بـ(فسح معرض).. حيث يتم فسح جميع الكتب التي يأتي بها الناشرون، وعرضها خلال أيام المعرض.. على رواده وزواره: فما يباع منها يباع.. وما يبقى منها يعود به الناشرون إلى أوطانهم، إلا أن الأمر اختلف في هذا المعرض عن سابقه.. فقد تعرضت بعض كتب الناشرين إلى رقابة صارمة.. امتدت من تسويد بعض الجمل والكلمات والمقاطع.. إلى حذف بعض الصفحات.. إلى المنع التام، وهو ما يعيدنا وبكل أسف إلى المربع الأول.. مربع الصمت والتكتم والتحريم لكل شيء..!!
لكأن (اللجنة العليا).. أرادت أن تقول بأنها مسؤولة عن الجوانب اللوجستية لـ(المعرض): إعداداً وإقامة وتأجيراً وحفاظاً عليه، وصولاً إليه.. أما الجوانب الثقافية بكل تفاصيلها الكبيرة والصغيرة، فقد تركتها لـ (وزارة الثقافة والإعلام) باعتبارها صاحبة الشأن والاختصاص.. إلا أن الوزارة أرادت أن تبتعد عن معرض جدة الدولي الثاني، وكما حدث في الدورة الأولى.. فلا يكون لها إلا حضور (رقابي) باهت على كتب الناشرين القادمين من خارج المملكة، وعلى مخرجات اللجنة الثقافية المختصرة التي قامت بتشكيلها من بعض رؤساء الأقسام الثقافية في صحفنا المحلية، دون أن تضيف إليهم.. أحداً من أندية المنطقة الأدبية أو من جامعاتها الحكومية أو الأهلية، أو من المثقفين أو المبدعين من خارج هؤلاء وأولئك، أما دعوة أو استضافة أدباء أو مثقفين من خارج المملكة أو داخلها.. فقد كان ترفاً قديماً لا تريد أن تتورط فيه الوزارة أو وكالتها للشؤون الثقافية ثانية، خاصة بعد أن تعذر عليها استضافة الرواد الذين أعلنت عن تكريمهم - في هذا المعرض - من خارج جدة.. كالأستاذ محمد علوان، الذي تم إبلاغه بخبر تكريمه.. لكنه لم يتلق تذكرة سفر يغادر بها إلى جدة، أو خبراً عن حجز له بأحد فنادقها، ولكنه تلقى في صباح يوم الافتتاح رسالة على جواله، تفيده بإلغاء حجزه إلى جدة.. دون أن يعلم أصلاً عن حجزه هذا الذي تم إلغاؤه!!
* * *
لقد كتب بعض كتاب الأعمدة الصحفية عن دورة المعرض الثانية خلال انعقادها.. كتابات لا تخلو من المجاملات.. حتى لا ننشر غسيلنا أمام الناشرين، ولكن الآن.. وقد غادرنا الناشرون جميعاً عرباً وغير عرب، ومن كان في معيتهم.. وأصبحنا وحدنا تماماً، فإنه يصح لنا.. أن نتكلم وبصوت مرتفع.. لمناقشة سلبيات التجربة الثانية وإيجابياتها: تفاصيلها ودقائقها، وما يقال وما لا يقال فيها وعنها..؟
على المستوى الشخصي.. أول ما لفت انتباهي: هو موعد حفل افتتاح المعرض، الذي حددته بطاقة الدعوة - الفاخرة والجميلة.. بحق - بـ(الخامسة) عصراً من يوم الخميس الخامس عشر من ديسمبر.. وهو (موعد) ربما يناسب حفلات سباق الخيل أو الأنشطة الرياضية عموماً.. ولكنه أبعد ما يكون عن حفل لافتتاح معرض لـ(الكتاب)، وكان الأوفق أن يكون في السابعة مساءً أو ما بين صلاتي المغرب والعشاء، وهو ما حرمني من حضوره رغم حرصي الشديد على رؤية المعرض في نسخته الثانية في أول ساعاته.. وهو ما لم يتحقق لي إلا في آخر أيام المعرض، إلا أن أخباره كانت تأتيني أولاً بأول.. عبر وسائل الإعلام المختلفة، وعبر الأصدقاء والزملاء الذين ترددوا عليه ثلاث وأربع مرات.. والتي كان أولها وربما أسوأها هو تناقص أعداد زوار المعرض ورواده.. رغم ارتفاع أعداد دور النشر المشاركة في هذه النسخة الثانية إلى أربعمائة وخمسين داراً عربية وغير عربية.. من ثلاثين دولة، ورغم المليون والخمسمائة ألف عنوان التي وضعت في خدمة رواد المعرض وزواره، فقد بلغ إجمالي أعداد زوار المعرض: ثلاثمائة ألف على قول.. إلى ثلاثمائة وخمسين ألفاً على قول آخر، بينما كان عدد رواد المعرض في نسخته الأولى ثمانمائة ألف زائر.. بمبيعات بلغت مائة مليون ريال، وهو ما لم يتحقق في هذه الدورة.. إلا نصفه، كما قال أكثر المتفائلين من الناشرين العرب..!؟
فهل كان لـ(اللغط) الذي دار حول المعرض ودوليته أو عدم دوليته، والذي امتد لفكرة انعقاد المعرض أو عدم انعقاده تأثير سلبي مباشر على حجم الرواد.. أم أن شركة الحارثي قصرت في حجم إعلاناتها التسويقية عن المعرض.. فكانت هذه هي نتائج ذلك التقصير، رغم أن الشركة.. أخذت فعلاً بالكثير من الملاحظات التي سجلت على المعرض الأول، فكان.. تحسينها للممرات داخل المعرض، ولدورات المياه، ولمواقع المطاعم والمقاهي، وللعناية بذوي الاحتياجات الخاصة، أم أن حجم السيولة الذي تضاءل بين أيدي المواطنين والمقيمين بالتالي.. بعد إلغاء البدلات عن بعض القطاعات.. هو السبب الرئيسي وليس غيره في تراجع أعداد الرواد ومن ثم تراجع أحجام المبيعات..؟
إلى جانب هذا.. كان لـ(الرقابة) على كتب الناشرين بالصورة المبالغة التي جرت بها.. تأثيره المباشر بالتأكيد على حجم مبيعات المعرض، فقد غاب الكتاب السياسي وكتب المذكرات عن المعرض إجمالاً إلا فيما ندر.. إذ بـ(الكاد) - كما يقولون - استطاع أحد الزملاء الأعزاء من الباحثين في دأب عن الكتاب السياسي بين دور المعرض.. أن يجد كتاباً عن (نساء الطغاة).. يحمل العنوان نفسه لكاتبته الفرنسية (ديان دوكريه) الصادر عن دار (جروس برس)، ليهديني مشكوراً الكتاب.. وهو يولول من سعره الذي بلغ ستين ريالاً.
فالناشرون العرب والدوليون اشتكوا كثيراً وطويلاً من أسعار الإيجارات بالمعرض، والتي بلغت مائتي دولار للمتر الواحد في (خيمة) المعرض!! وهو سعر مبالغ فيه.. استلزم بالضرورة رفع ثمن الكتاب لدى تلك الدور، وهو ما يعيق.. تحقيق الفائدة الثقافية المرجوة.. من وراء إقامة هذا المعرض أو غيره.
على أن (الندوات) على قلتها.. لم تخل من شكوى المشاركين فيها.. كندوة (تجارب روائية) التي أُخبرت بالمشاركة فيها الكاتبة (لطيفة قاري)، فحاولت على مدى أسبوعين - كما ذكرت - معرفة موعد الندوة والمشاركين معها فيها؟ فلم تتمكن.. ليبلغوها قبل ساعات من افتتاح المعرض فكان ردها (الاعتذار).. عن حضورها.
* * *
لقد كانت الصورة التي ظهر بها المعرض في دورته الثانية إجمالاً لا تطمئن.. على مستقبله، فالبحث عن (أب) له.. ما يزال (جارياً) وأخشى أن يمر بذات المسار الذي سار عليه معرض الرياض الدولي للكتاب.. في بحثه عن (أبيه).. من جامعة الملك سعود إلى وزارة التعليم العالي إلى وزارة الثقافة والإعلام: الأب الحقيقي.. لكل معارض الكتاب في العالم..!
وفي حالتنا.. يحق لوزارة الثقافة، أن تفخر وتعتز بأن بها معرضان دوليان للكتاب: أحدهما في الرياض العاصمة والآخر في عاصمتها التجارية (جدة).. لأن وطنها (المملكة العربية السعودية).. لا يخشى المعرفة.