ياسر صالح البهيجان
عندما تجهل المجتمعات البشريّة قيمة العمليّة القرائيّة الواعية ودورها الفاعل في بناء المعرفة الإنسانيّة تقع لا محالة في مخاض عسير يسود فيه حالات التيه الثقافي والتخلف والرجعيّة، ويصير معها الإنسان كائناً سلبيًا جامدًا لا يكف عن تكرار أخطائه، ويعجز عن اكتشاف آفاق جديدة تخرجه من ضلال ماضيه، وتحجب عينيه عن رؤية رحابة المستقبل.
اجترار الموروث بما يحمله من سلبيّات دون إخضاعه لقراءة ناضجة تقوّم ما أعوج منه، وتصحح الميل الثاوي في صفحاته، لا شك سينتج مجتمعًا بشريًا هشًا يحفل بالتناقضات الفكريّة، ويستمتع في ممارسة جلده لذاته ولأفراد مجتمعه، دون أن يطرح حلاً لمعضلة، أو يتبنى فكرًا تنويريًا يروم بعث الحياة المعرفيّة من جديد، ولن يتسنّى لأي مجتمع تجاوز أزمات ماضيه وحاضره ما لم يتقن عملية القراءة الواعية التي تعد فنًا كاشفًا للأستار المتحجّبة، ودالاً على مدى تحضّر الإنسان المعاصر، القادر على التجرّد من أي انحيازات تاريخيّة إن كان التاريخ يعوق السيرورة البشريّة، ويجدّف عكس تيّار التطور الإنساني.
القارئ الواعي يمثّل قوّة في أي مجتمع حديث لما يحمله من إمكانات عقليّة تجعله قادرًا على مواجهة تحديات الواقع المعقّدة، فضلاً عن قدرته على بناء المستقبل بذهنيّة أكثر انفتاحًا وتقبلاً للتحولات الفكريّة، إلى جانب اتزانه ورفضه الانصياع للأفكار المشوهة والضالة والمنحرفة والمتشددة التي باتت عنوانًا بارزًا في إفرازات تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين، والتي أنتجت مجتمعات عولميّة تحفل بالأفكار الشاذة والناشزة عن الأعراف والقيم والأخلاقيّات الإنسانية.
عملية القراءة لم تعد تعني فك الرموز اللغويّة وبناء معنى محدد لها، وإنما تجاوزت ذلك لتصنع ذهنيّة واعية ومفكّرة، تتمكّن من استقراء الوقائع والأحداث الآنيّة، وتتنبأ بإمكانات المستقبل المنفتح على التأويل، لتتخذ إجراءات وقائيّة بعقليّة علميّة تتكئ على المعارف المسبقة والخبرات والمواقف، وهي بذلك تكون قراءة تحليلية وناقدة وخلاقة، وليست قراءة سلبيّة هدّامة هادرة للوقت والجهد، فضلاً عن دورها في تأسيس شخصيّة متماسكة مبنيّة على الثقة بذاتها وبمعتقداتها وعاداتها وتقاليدها، رافضة المساس بهويّتها ومعتزة بقيمها الدينية والحضاريّة، وشامخة بانتماءاتها الوطنية، ومدافعة عن شرف أرضها، وقادرة على أن تصبح واجهة مشرّفة لبلدانها في المحافل والميادين العلمية والثقافية والفكرية والمعرفية.
المجتمعات العربية باتت بحاجة ملّحة لسن أنظمة ومبادرات وطنيّة تعزز من اتجاه الأفراد نحو القراءة الواعية في سائر المجالات الإنسانية والعلمية، فالدراسات الحديثة أثبتت بأن تراجع مقروئية الشعوب تُعد سببًا رئيسًا في تدهور حالة أي مجتمع في الجوانب الثقافية والمعرفية والعلمية، ما يجعل الجهات التعليمية والتربوية ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام جميعها مطالبة بأن تحدث ثورة قرائيّة تعيد للمجتمعات فاعليّتها وديناميكيّتها للنهوض من كبوات الحاضر، والبدء بالتأسيس لمستقبل مزدهر تسود فيه المعرفة، ويعود من خلاله العقل العربي رائدًا في الإنتاج والتأليف والابتكار والاختراع.