د. محمد بن إبراهيم الملحم
قدمت في الحلقة السابقة أهمية التقويم التربوي المفصلية في قيادة التغيير التربوي وذكرت أن الملامح الثلاثة التي ينبغي توفرها للاستثمار الأمثل في هذا المجال الحساس للعملية التعليمية هي رعاية التعليم العالي للتخصص وتوفير المتخصصين في مؤسسات التعليم وحضور متخصصي هذا المجال في صناعة القرار. ووضحت أنها جميعا غير متوفرة لدينا مع الأسف، واليوم أفصِّل في هذا السياق فبالنسبة للتعليم العالي فإن الجامعات لم ترع هذا التخصص حق الرعاية واقتصر دورها على برنامجي ماجستير في جامعتين هما الملك سعود وأم القرى فقط كما كان هناك قديما برنامج دبلوم عالٍ مدته سنة تقدمه أم القرى ثم ألغي، وبعيدا عن بحث مدى الجودة النوعية لهذه البرامج فإن الحاجة ملحة لتخريج متخصصين في هذا المجال في كل مناطق المملكة وهذا يضع على بقية الجامعات مسئولية توفير برامج مماثلة كما نؤكد في موازاته ضرورة تجويد مخرجات البرامج القائمة وتلك التي تحدث ليتحقق الهدف بتوفير متخصصين حاذقين لهذا المجال، ولهذا السبب أقترح أن يتضمن كل برنامج تدريبا عمليا في إحدى مؤسسات التقويم التربوي العالمية لمدة فصل دراسي واحد على الأقل فهذا المجال يحتاج نوعاً خاصاً من البصيرة العلمية كتلك التي يكتسبها الممارسون في المجال الطبي فالمقوِّم (بكسر الواو) يشخّص مواطن الداء من خلال قراءته الواعية للأرقام وقبلها حسن تصميمه لأدوات القياس، وهذا يقودنا إلى التأكيد على ضرورة أن يكون إتقان الإنجليزية أحد متطلبات هذا التخصص لقلة المراجع العربية الأصيلة في هذا المجال فالموجود أكثره تكرار لبعضه البعض.
وأيضا فإنّ هذا التخصص ليس من التخصصات ذات الأولوية في برنامج الابتعاث، والبحث العملي في هذا المجال لا يحظى بتشجيع خاص، بل إنّ قبول أبحاث ضعيفة في الماجستير والدكتوراه هو نكبة كبرى عليه، وهذا أنتج في الواقع طائفة من المتخصصين الذين لا يرتقون إلى طموحات التغيير التربوي المنشود والذي يتطلب عقولا مفكرة واعية وثقافة شاملة تحتوي كل مجالات التربية. وحيث تلعب الجمعيات المتخصصة التي تنشئها الجامعات وكذلك مراكز البحث العلمي التخصصية (ومثلها كراسي الأبحاث) دورا مهما في بث ثقافة التخصص بين الممارسين وفي المؤسسات ذات العلاقة فلا بد أن يكون لجمعية القياس والتقويم التربوي السعودية دور فاعل في هذا السياق، وقد علمت قبيل كتابتي هذا المقال بوجود هذه الجمعية حيث أنشأتها جامعة طيبة قبل تسع سنوات تقريبا وبعيدا عن ضعف التعريف بها فعندما تصفحت أعمالها وجدتها محصورة في أنشطة محدودة أبرزها مؤتمر وندوة عقدا عام 2015 ومجلة لم تصدر بعد! وقد أذهلني مجلس إدارة الجمعية بأسمائه اللامعة بدءا من رئيس الجمعية صاحب السمو مدير مركز قياس الذي أثبت نجاحات مميزة في المركز فأتمنى أن يكون للجمعية نصيب من ذلك. الجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية (جستن) في جامعة الملك سعود مطالبة أيضا أن تولي أمر القياس والتقويم عنايتها وتفتح وحدة تخصصية ترعى هذا الشأن. ولا يجب أن نتحدث الآن عن هيئة تقويم التعليم بعد أن تمت إعادة هيكلها بدمج عدة مؤسسات فيها وصياغة أسلوب عمل جديد لها في القيادة والقرار ونترقب أن توفق بصيغتها الجديدة في النهوض بهذا المجال المهم بعد سنوات عديدة بإنجازات محدودة. ومع ذلك فإن الهيئة لا تعبر عن المجتمع الأكاديمي بقدر ما هي جهاز تنفيذي لأنشطة التقويم ويبقى الجانب الأكاديمي وضخ الموارد البشرية المتخصصة عالية التأهيل هو مهمة الجامعات سواء في تخريج دفعات جديدة أو في الارتقاء بمستوى الباحثين الموجودين حاليا إلى المستوى العالمي المرموق بما يوصلنا إلى رؤية تطويرية حقيقية للتعليم.
سأتحدث عن الجانب الثاني والمتمثل في دور وزارة التعليم نحو المتخصصين في الجزء القادم بإذن الله.