د.محمد بن عبدالرحمن البشر
زارني اثنان من الصين, أحدهما متخرج من جامعة القصيم متخصص في اللغة العربية والعلوم الاجتماعية, والآخر لم يتح له تعلم اللغة العربية، وكلاهما يتحدث الإنجليزية. ومن المعلوم أن الصينيين في الغالب لا يتحدثون سوى لغتهم, إلا من أتيح له دراسة إحدى اللغات وهم قليل جداً, مقارنة بنحو مليار ونصف مليار صيني.
سألت أحدهم عن أحواله, فذكر أنه قضى إجازة في جزيرة (انتاركتيكا) جنوب الأرجنتين, وهي لا تتبع للأرجنتين, ولا لغيرها من الدول, أي أنها جزيرة بكر ليست تابعة لأي بلاد من بلدان العالم, ولا يسكنها سوى حيوان الكنجر فقط, والثلوج تغطيها حتى لا تكاد ترى للطبيعة أثراً سوى الثلوج المتراكمة التي يزيدها بريق الثلج جمالاً, مع شيء من الماء الناجم عن ذوبان الثلوج, وقد ذهب إلى تلك البلاد في رحلة استجمامية في سفينة سياحية روسية مع بعض من السائحين.
أطلعني على صور التقطها لتلك الجزيرة, وقد لفت نظري بروز العلم السعودي الذي يحمل شهادة (لا إله إلا الله), بجانب العلم الصيني داخل السفينة, فقلت له من أين لك هذا, فذكر أنه حمله معه إلى تلك البقاع محبة للمملكة, علماً بأنه ليس مسلماً, وما زادني انبهاراً أنه أراني صوراً فوتوغرافية أخرى, يظهر فيها علم المملكة العربية السعودية بجانب علم شركته التي يعمل بها، وقد ثبت العَلَم على أرض تلك البلاد التي لا يقطنها أحد, ولا تتبع لأي دولة, فعجبت من الأمر, وسألته عن سر اختياره لعَلَم المملكة, علماً بأن ما تقوم به الشركة التي يعمل بها ليس لديها مشاريع تضاهي تلك المشاريع في بلاد أخرى, فقال مطمئناً أن بلادكم جالبة للراحة, وفيها من الخير الكثير, وأن الشعب السعودي فيه من الخصال الحميدة التي قل ما تجدها في بلاد أخرى, إلا من شابهها في العادات في الدول المجاورة, ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن الشعب السعودي ليس لديه أوجه قصور هنا أو هناك, لكن أوجه القصور تلك من الممكن تهذيبها طالما أن الطيبة والمعاملة الإنسانية هي الغالبة.
بعد أن أتم حديثه, أخذ الحديث الصيني الآخر, فذكر أنه أثناء دراسته في جامعة القصيم كان أحد المواطنين السعوديين يقدم له خمسمائة ريال شهرياً, علماً بأنه لا يعرفه من قبل, ولم يوص عليه أحد, وهو مستور الحال, ليس صاحب منصب أو مال, كما أنه لم يطلب منه الدخول في الإسلام, وإن كان بعض زملائه قد دعاه إلى ذلك.
أردف قائلاً: كيف لذلك الرجل الذي لا يعرفني من قبل, وليس لديه فائض مال, ولم يطلب مني شيئاً, أن يعاملني بتلك المعاملة, وهو أمر لم أعتد عليه. ولذا فقد أجمع الاثنان على أن هناك الكثير من الخصال الحميدة الفطرية التي جبل عليها أبناء هذه الأرض الكريمة.
أعادني هذا الحديث بالذاكرة إلى ما سار عليه الأجداد من تعامل حسن, جعل الشرق الأقصى يدخل في الإسلام, دون حروب, أو دعوة منظمة, وإنما كان السبب الرئيس صحة الإسلام ومنهجه القويم المبني على التسامح, والمحبة, وفعل الخير, والصدق في المعاملة, وكذلك سلوك أولئك الأوائل الذين ضربوا مثلاً لمعنى الإسلام الحقيقي في المعاملات المالية والإنسانية, التي قد تغيب مع كل أسف عند البعض في زماننا هذا.
وتذكرت تلك الأسطورة التي سطرتها في كتابي عن (حضارة الصين), وهي أن الإمبراطور (ثاي تسونغ) الذي حكم الصين بين عامي 627-649 ميلادية, لأسرة ثانغ, ومفادها أن الإمبراطور رأى في بعض أحلامه عفريتاً ينقض عليه, وبينما هو يعاني من هذا الكابوس الشديد ظهر شيخ في جبة خضراء, وعلى رأسه عمامة بيضاء, وطرد ذلك العفريت اللعين, وأنقذ الإمبراطور من الخطر المحدق به, فحشد الإمبراطور وزراءه, وحاشيته من المدنيين والعسكريين في اليوم التالي, داعياً إياهم إلى تأويل رؤياه, فقال أحد الوزراء إن العفريت الذي رآه في المنام, إنما يرمز إلى وجود متآمرين على الإمبراطور في القصر, بينما الشيخ المعمم هو النبي الذي بزغ نجمه في جزيرة العرب, وأن السلام لن يدوم في الصين إلا بفضل هذا النبي.
وسواءً كانت تلك أسطورة أو حقيقة, إلا أنها ترمز إلى أن الصينيين قد أيقنوا أن النبي عليه الصلاة والسلام, رسول خير ومحبة وسلام, وأن من يدعي اتباعه من الظلاميين والمجرمين الآن, أبعد ما يكونون عن ذلك الدين الحنيف, كما أن من خصائص الإسلام نشر المحبة, والتواضع, والإحسان, وحسن الخلق.