د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
الحديث عن التأمين الصحي وعن التخصيص في الخدمات الصحيه لم ينقطع أبداً منذ أكثر من ثلاثين عاماً - في وسائل الإعلام وفي المؤتمرات أو في النيات الطيبة للخطط الصحية وتوصيات اللجان. أما من الناحية العملية فكانت صور من التخصيص الجزئي موجودة منذ عام 1400هـ، وتمثلت في التعاقد مع الشركات على التشغيل الجزئي أو الكلي للمستشفيات الحكومية. وكذلك في التعاون مع المرافق الطبية الخاصة في صورة استئجار أسرة أو خدمات أخرى. ومنذ عام 1420هـ (صدور نظام الضمان الصحي التعاوني)، وعام 1423هـ (صدور النظام الصحي)، أصبح التخصيص والتأمين الصحي راسخاً نظاماً ومطبقاً بشكل جزئي فيما يخص التأمين، أو غير مطبق في جانب التخصيص. غير أن كلّاً منهما أصبح مطروحة للتطبيق الجاد ضمن برنامج التحول الوطني. لذا أود أن يشاركني قرّاء «الجزيرة» في الاطلاع على نموذج سلبي من نماذج التخصيص في ضوء تجربة واقعية لتخصيص مستشفى جامعي كبير يقع في ثاني أكبر مدينة ألمانية هي مدينة هامبورج -وهو مستشفى (سانت جيورج). فهذا المستشفى حكومي يقدّم العلاج المتخصص لكل فئات المرضى المحوّلين من طبيب الأسرة (العيادة الخاصة) أو من مستشفيات أخرى، ويتحمّل التأمين العام (الاجتماعي) أو الخاص تكلفة العلاج. لكن إيرادات علاج المرضى لا تكفى لتغطية جميع ما ينفقه هذا المستشفى التعليمي المرموق على العلاج والخدمات الأخرى، كالتعليم السريري والأبحاث والمشاريع، فينشأ عجز تغطية حكومة ولاية هامبورج. وبحسب التقرير المفصل الذي نشرته مجلّة (دير شبيجل Der Spiegel) الألمانية الأسبوعية واسعة الانتشار في عددها (51/2016)، فإن حكومة الولاية - بسبب العجز الذي أرهق ميزانية الولاية - قرّرت قبل 12 عاماً تخصيص المستشفى بالكامل من خلال بيعه لإحدى الشركات الكبرى المالكة لعدد من المستشفيات الخاصة، باعته بثمن بخس لكي تتخلص من عبء نفقاته. وهكذا تغيّر المالك وتغيّر النهج الإداري، فهل بقي المستشفى على رقيّ مستواه وشمول خدماته؟ يوضح تقرير المجلّة المبنيّ على إفادة العاملين والوثائق والتقارير الداخلية للمستشفى الوقائع التالية:
1- إن الشركة المالكة للمستشفى أقامت سياسة التشغيل على أساس أن يحقق المستشفى أرباحاً، وحدّدت الهدف بأن لا يقل الربح السنوي عن 12%، ثم يزداد لاحقاً بمقدار 1%.
2- جني هذه الأرباح جعلته إدارة الشركة هدفها الأعلى، وسعت لتحقيقه من خلال ضغط المصروفات وخفض عدد الأطباء وهيئة التمريض ومتطلبات صارمة أخرى لا تراعي قدرات تحمّل الأطباء وهيئة التمريض أو احتياجات المرضى، فالأطباء يُقيَّمون بقدر الربح المتحقق، وهيئة التمريض يُنظر إليهم باعتبارهم عناصر تكلفة، والمرضى يُعاملون على أنهم مجرد حالات مرضية.
3- نتج عن ذلك ما شكا منه الأطباء وهيئة التمريض بمرارة في مذكرات رفعوها إلى الإدارة من الإرهاق الشديد في العمل وضيق الوقت اللازم للعناية بالمرضى -لا سيما وأكثرهم في حالة مرضية سيئة- بما يترتب على ذلك من أثر سيئ على رعاية المريض وزيادة في احتمال حدوث أخطاء طبية أو ظهور مضاعفات.
4- تعطي إدارة المستشفى أولوية قصوى لعامل الربح على حساب وظيفة المستشفى الاجتماعية، كما يظهر من تفضيلات قبول الحالات:
-- تريد الإدارة التركيز على قبول الحالات الصعبة أو الشديدة، حيث إن عائدها أكبر وفق نظام المحاسبة على أساس تشخيص نوع المرض (diagnosis related groups)، ويتمّ إخراج المريض مبكراً بعد أن تتحسّن حالته أو يُشفى، لأن إقامته بعد ذلك تصبح أقل مردوداً، ويمكن إخلاء السرير لحالة جديدة. وتلوم الإدارة الأطباء إذا قلّ عدد الحالات الصعبة التي يعالجونها، بل إن الشركة قامت بإغلاق عنبر الأمراض الباطنية العامة لأن عائدها قليل.
-- كذلك تلوم الإدارة الأطباء إذا هم أكثروا من قبول حالات يغطيها التأمين النظامي (الاجتماعي) وتطلب التركيز على قبول المرضى الخصوصيين.
وتصف المجلة الأسلوب التجاري في إدارة هذا المستشفى الجامعي بعد تخصيصه بالكامل وبيعه للشركة - بأنه يشبه إدارتها لسوبر ماركت. إلا أن هذا الأسلوب ليس نشازاً، فهو يُطبق في كثير من المستشفيات التي تملكها شركات خاصة في ألمانيا، وعددها (700) أي نحو 36% من مجموع مستشفيات ألمانيا. ومن قراءة تقرير المجلة يتضح أنه بهذا التخصيص تخلصت الولاية من عبء تمويل المستشفى، ولكن زادت أعباء العاملين من أطباء وتمريض، وزادت معاناة المرضى، وضاع الاهتمام بالوظيفة الاجتماعية للمستشفى. وحتى لو مارست الجهة الحكومية المعنية شيئاً من المتابعة أو الرقابة، فهي لا تملك سلطة أو أدوات للضغط على الإدارة أو التدخل في إجراءاتها أو حماية العاملين والمرضى. وإدارة المستشفى ليست قلقة بشأن كسب المال، لأن شركات وصناديق التأمين مؤسسات مستقلة لا تتدخل الحكومة في أعمالها أو اتفاقاتها مع القطاع الخاص إلا بحدود التزامها القانوني والسياسي بضمان وجود الرعاية الصحية الكافية، كما أن مؤسسات التأمين يفيدها تقليص أيام الإقامة للمرضى وعدم تنويم الحالات العادية، أما قضايا حماية حقوق العاملين والمرضى فأمرٌ تهتمّ به الجمعيات والنقابات المهنية والمجالس البلدية. ومن الواضح أن هذا التخصيص التجاري سيقلب ترتيب العلاقة الطبيعية التي يأتي فيها المريض أولاً ثمّ الطبيب ثمّ الوسائل التقنية، إلى ترتيب معكوس يبدأ بالمال أولاً ثم الطبيب ثم الوسائل التقنية ثم المريض. ربما نعتبر حالة التخصيص هذه حالة استثنائية وليست القاعدة، لكن الإحاطة بها تفيد في توخّي الحذر من الانزلاق إلى منحدر نموذج كهذا للتخصيص التجاري الكامل. وغنيّ عن الذكر أن المستشفيات الخاصة الهادفة للربح لا تُجدي إلا في أماكن تضمن لها الربح بوجود مصادر دفع مقتدرة كشركات التأمين والطبقات الميسورة، وستركّز على أنشطة تزيد ربحها من خدمات فندقية وإجراءات طبية ذات كلفة عالية بعضها لا يلزم.
أما مستشفياتنا الخاصة فإنها تزيد على ذلك بفتح عياداتها الخارجية لاستقبال المرضى دون حاجة لتحويل من خارج المستشفى ما عدا الارتباط بحجز موعد في بعض التخصصات.
لا شك أن وجود نسبة معينة من هذه المستشفيات الخاصة عندنا ضروري لأنها تتيح خياراً لمن يفضل خدماتها. أما المستشفيات غير الهادفة للربح (الحكومية) القابلة للتخصيص فإن تخصيصها وفق مبدأ الشركة بين القطاع العام والخاص الذي تبنّته مبادرات وزارة الصحة ضمن برنامج التحول الوطني، والذي لا يغلّب الجانب الربحي (التجاري) سيلتزم بالجمع بين الكفاءة العملية للإدارة الاقتصادية الحديثة والتمسّك بالمستوى الطبي الجيد وأداء وظيفة المستشفى في خدمة المجتمع. لكن مبادرات وزارة الصحة تشمل أيضاً إعادة هيكلة الرعاية الصحية الأولية - التي من المأمول أن تكون مبنيّة على قاعدة طبيب الأسرة، في القطاع العام (المراكز الصحية) أو في القطاع الخاص (المجمعات الطبية). كما تشمل المبادرات أيضاً برنامج الضمان الصحي - والمقصود هو تطبيق التأمين الصحي الشامل على المواطنين الذي سيغطّي مستويات الرعاية الصحية الأولية والثانوية، والذي هو وسيلة (وليس مصدراً) للتمويل؛ ذلك لأنه يمكّن من الفصل بين الجهة المموّلة (كوزارة الصحة) ومقدم الخدمة (المستشفى أو المركز) وينظم الدفع مقابل الخدمة، مما يجعل التخصيص ممكناً بالفعل، كما أنه ينظم ويرشّد استخدام المرافق الصحية. وفي رأيي أن المدّة الزمنية المتاحة لبرنامج التحول الوطني -أي حتى 2020- كافية لإنجاز تنظيم متزامن ومنسق يجمع هذه البرامج (المبادرات) الثلاث في مشروع واحد، بدلاً من تنفيذ كل مبادرة على حدة. ولو تم ذلك على هذا النحو فإنه سيكون بمنزلة تطوير جذري للنظام الصحي السعودي بأكمله.