عبد الله باخشوين
.. ها أنذا - كما في كل مرة - أسعى للخوض فيما لا أعرف مسترشدًا بحدسي فقط.
وهو يقوم على تحليل نتائج الأحداث السياسية الكبرى في القرن العشرين.. من خلال قراءة المبادئ والأفكار والإيدلوجيات السياسية التي حتمت طرح السؤال الكبير حول معادلة الاقتصاد والمال.
فمن البديهي القول إن «ألمانيا» خرجت من الحرب العالمية الثانية مكبلة بأعباء مالية كبيرة بين خسائر وديون وتعويضات.. في ميزان مالى معقد يقود «الذهب» دفته الرئيسة ويحكم قاعدة تعاملاته.. وفي الشق الآخر تقع «اليابان» في نفس «الفخ» وفق النتائج النهائية للدول «المنهزمة» بعد نهاية الحرب وفق الشروط التي وضعتها الدول الحليفة المنتصرة.
هذا إلى جانب أزمتها الداخلية الخاصة التي تتمثل في الدمار شبه الشامل على المستوى العمراني والعسكري والبشري والمعنوي.
أي أن كلا من الدولتين واقعتان تحت وطأة دمار اقتصادي يتعلق بالبنى التحتية الحيوية اللازمة على كل المستويات.. التي تحتاج إلى إعادة بناء وترميم وهيكلة تستوجب إعادة استثمار ثروتها البشرية والطبيعية وفق نظرة اقتصادية جديدة.. يمكن تخيل نتائجها الأولية بين خطوات شرق ألمانيا وغرب ألمانيا وفق أولويتها لإعادة البناء.. وفق رؤية كل منهما اقتصاديًا.. سواء لتلبية احتياجات الإنسان الأولية.. أو من خلال إعادة تدوير البنية الاقتصادية الأساسية وتسخيرها لتلبية احتياجات السوق.
كانت لدى ألمانيا الغربية أولويات أحدهما على مستوى الصحة والتعليم والبناء الإداري والغذاء والدواء وما إلى ذلك.
أما الثانية فكانت إعادة تأهيل وتطوير صناعاتها الموروثة من العهد النازي وهي كبيرة جدًا ومتشعبة في كثير من مجالات الإنتاج.. والعمل على إعادة استثمار المصانع الكبرى للسلاح والإنتاج الحربي بتمويل مساراتها للإسهام في إنتاج صناعات مدنية تلبى احتياجات عالم ما بعد الحرب الذي أخذ يشهد بداية نهضة مرحلة السلام الدولي.. وكل هذا تم من خلال القروض وتحالف الشركات التي أفرزت مفهوم «الشركات متعددة الجنسية» التي اعتبرها الاتحاد السوفياتي وحلفاءه في طليعة أعداء الفكر الاشتراكي والشيوعية العالمية.
طبعًا لا حاجة لنا والقول إن إعادة البناء الاقتصادي الألماني قادته عقليات اقتصادية كبيرة في دولة قدم مفكريها وفلاسفتها خلال القرن التاسع عشر كل الأفكار الجديدة التي أضاءت القرن العشرين بما في ذلك جدلية «رأس المال» لماركس وانجلز.
هذا فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي أما فيما يتعلق بـ»المال» فسوف اكتفي من التحليل بطرح الحكاية التالية التي تدور حول المملكة العربية السعودية:
ففي تسعينات القرن الماضي.. التقى بعض رجال المال والأعمال من عدة دول غربية مع أحد رجال الأعمال أو التجار الذي امتد نشاطة للعمل في أسواق «البورصة» في بعض دول أوروبا.. للمضاربة في الذهب والفضة والبلاتين وبعض العملات.
جلس يستمع لضيوفه الغربيين وهم يتحدثون بانبهار عن «الثروة السعودية» وكمية الأموال الهائلة التي يملكها كثير من الناس.. وانتهوا إلى القول:
- أنتم أثرياء.. وبلادكم ثرية يا صديقي..؟!
لكنهم خرجوا مندهشين مما سمعوا.
قال لهم صاحبنا:
- يدهشني أنكم تعتبرون بلادنا ثرية بالرغم من أنها فقيرة جدًا.. جدًا.. وتعتبروننا أغنياء بالرغم من أن وجود المال في خزائننا الشخصية ليس دليلاً على ثرائنا.. أما أنتم فأغنياء بالفعل.
أغنياء لأن شبكات المترو في مدنكم الكبرى تعمل منذ ما يقرب من مائة عام.. وشبكة القطارات والغاز تغطى كل خريطة بلدانكم.. وصناعاتكم تنافس على المستوى الدولي وأسلحتكم متطورة جدًا.. وطائراتكم العسكرية والمدنية تحلق في كل سماء.
هذا إضافة إلى تطور مختلف العلوم لديكم.. وكل مستويات الاحتياجات الإنسانية متكاملة ومتقدمة في الطب والجامعات والخدمات والإسكان والطرق والسيارات... و...
كيف نكون أغنياء بحجم المال الذي بين أيدينا ونحن لا نملك أي شيء مما تملكون.. ثم عليكم أن تخبروني كم نحتاج من المال والعمل حتى نحقق ولو جزءًا يسيرًا مما تحقق لكم وتنعمون بمميزاته منذ ما لا يقل عن مائة عام.
كم نحتاج حتى نبني هذه الصحراء أو ننهض بما لدينا من زراعة.. ليس لنصل للمستوى الذي أنتم فيه.. بل لمجرد أن نقترب منكم ونسايركم ويصبح لحوارنا معكم خطوطًا مشتركة ذات تناغم إيجابي.. كم من المال والوقت والعمل والرجال المؤهلين نحتاج لنصبح أثرياء بالفعل.
كل هذا إلى تقدم أسوقه كمثال لأهمية العمل الذي أخذ المستنيرون من رجال بلادنا وشبابها على عاتقهم مهمة النهوض والتصدي لعقباته وإشكالاته هذه الرؤية التي تضيئها همم الشباب مثل محمد بن سلمان.. لا نقول إنها تأخرت بقدر ما نفرح لأنها بدأت وسوف تتجاوز العقبات والعثرات بإيمان ودعم كل الذين يؤمنون بالمستقبل.. ويرون فيما بدأ اللبنة الأساسية لضمان مستقبل أبنائهم.. وكل الأجيال القادمة.