د. عبدالواحد الحميد
مثلما أن التقنية الحديثة يَسَّرت حياة الإنسان في هذا الزمان فإنها أيضا فرضت عليه الكثير من المنغصات. وقد كان الموظف في أزمنة سابقة يغادر مكتبه فينهي علاقته بالعمل حتى اليوم التالي، ولكن عندما شاع استخدام البريد الإليكتروني «الإيميل» تلاشت الحدود الفاصلة بين «المكتب» و»المنزل» وصارت المعاملات وتكليفات العمل تقتحم على الموظف عزلته في بيته وسط أهله بل وتوقظه من النوم، وأصبح تسلط الرؤساء وطلباتهم التي لا تنتهي كابوساً مفزعاً للموظف يجثم على صدره حتى في أوقات إجازته الأسبوعية!.
ومشكلة الموظف الجاد هي أن جديته تغري رؤساءه بطلب المزيد، وفي زمن «الإيميل» لا يتطلب الأمر من الرئيس المتسلط سوى رسالة من سطر أو سطرين يرسلها إلى الموظف عبر «الجوال» خارج وقت الدوام كي ينشغل الموظف بالرد عليها حتى صباح اليوم التالي.
لذلك أجد أن القانون الفرنسي الجديد الذي منع ملاحقة الموظفين برسائل البريد الإليكتروني خارج وقت الدوام قانوناً عادلاً، ففي اللحظة التي يخرج فيها الموظف من المكتب تصبح بقية ساعات اليوم من حقه ومن حق أسرته ما لم تكن هناك ترتيبات خاصة متفق عليها بين الموظف وجهة عمله.
ومعروف أن العمال في أوروبا، وبخاصة بريطانيا، زمن الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر كانوا يقضون ساعات عمل طويلة تصل إلى اثنتي عشرة ساعة في اليوم، وقد تصل إلى أربع عشرة ساعة وذلك لمدة ستة أيام في الأسبوع. ولم يكن بالإمكان الاستمرار على هذه الحال البائسة، فصدرت الأنظمة التي تُحسِّن أحوال العمال وسط مقاومة شرسة من أرباب العمل.
هذه الحقوق التي اكتسبها العمال والموظفون استقرت وأصبحت من الأمور المسلم بها ليس فقط في البلدان التي شهدت بدايات الثورة الصناعية، وإنما أيضاً في معظم بلدان العالم.
وقد وفرَت الآلات التي اخترعها الإنسان الكثير من الجهد والوقت للعامل وإن كانت أحياناً قد «سرقت» منه الوظيفة وحلت مكانه. لكن التقنية الحديثة، وبطريقتها المخاتلة الناعمة، تريد الآن أن تأخذ باليد اليسرى ما قدمته باليد اليمنى، فاصبح الموظف من جديد عبداً للوظيفة في ساعات عمله وعندما يخرج من المكتب!
أعتقد ان القانون الفرنسي الجديد يعيد للموظف حقه الذي تآمرت «التقنية» مع أرباب العمل على انتهاكه، فساعات العمل هي للعمل كما تضمنها أنظمة العمل وساعات الراحة للراحة، وبينهما أوقات يتفق العامل ورب العمل على تنظيمها بالتراضي وطيب الخاطر أو بالمقابل المادي.
وقريباً سنرى عدوى الظاهرة الفرنسية تنتشر في كل مكان!