د. جاسر الحربش
أعني هنا الكمال الدنيوي، أي محاولة الاكتمال في الأداء البشري من حسن ودقة التعبير إلى جودة وجاذبية البضاعة المعروضة في السوق. مرسيدس، بي أم دبليو، أودي، فولكسفاقن، كلها منتجات من دولة أوروبية من وسط الغرب. يقابلها لكزس، إنفنتي، لاندكروزر، هوندا، منتجات من دولة آسوية في أقصى الشرق. هذه الماركات تتصدر عالمياً الجودة الصناعية للمركبات منذ خمسين عاماً ولا يوجد من يستطيع المنافسة، وكلا الدولتين المنتجتين خرجتا من الحرب مدمرتين بالكامل. هذان شعبان يتنافسان على الإتقان والكمال في كل شيء، ما عدا صناعة التدمير فهذه احتكار للولايات المتحدة الأمريكية.
التنافس على الكمال يشمل الالتزام بالوقت، فالمواصلات والإسعاف والشرطة في هاتين الدولتين تصل خلال الدقائق والكسور من الثواني. كل الدول الأوروبية وكذلك أمريكا وأكثر الدول الآسوية تصنع السيارات وكل السيارات تسير ومصنوعة على نفس المبدأ، محرك وقود ومولد كهربائي ونواقل حركة وهيكل ومقاعد، لكن الفرق النوعي يعرفه كل العالم.
ألمانيا ليست دولة نفطية وروسيا تتصدر قائمة الدول النفطية، ولكن خبير روسي في النفط في لقاء عالمي عن مستقبل الطاقة علق على محاضرة خبير ألماني بقوله: اتضح لي أن الألمان يفهمون في النفط أكثر من كل المنتجين والمصدرين.
ذكرت لكم أن إحدى الدولتين آسيوية تقع في أقصى الشرق والأخرى غربية في وسط أوروبا، أي أن مسألة الإتقان والكمال ليس فيها جينات وراثية ولا عوامل بيئية أو دينية أو ثقافية مشتركة. المشترك الجامع بين اليابان وألمانيا هو الإرادة والإدارة. اليابان كانت حتى منتصف القرن التاسع عشر، وألمانيا حتى منتصف القرن الثامن عشر دولتان متخلفتان لا قيمة لهما في الفكر والصناعة أو نشاط بشري إبداعي. إرادة وإدارة القيادة السياسية والنخب في الدولتين أحدثتا النقلة النوعية وزرعتا في عقول الشعبين إرادة الاقتراب والوصول إلى الكمال.
على أي حال من الأفضل الالتزام بالواقع ومقارنة الممكن بالممكن وأول الأمور الانضباط والاستفادة الكاملة من الموجود والممكن، ولكن بعد نبشه وحرثه وإلقاء النفايات فيه إلى مزبلة التاريخ. أولاً التعامل مع الوقت بانضباط، ثم التعليم والرعاية الصحية وخدمات الإسعاف والدفاع المدني وتنظيم المرور وكوادر الخدمة المدنية إلى آخر المتوفر والموجود. اعتماد الميزانيات المرصودة وأعداد الأفراد وكميات اللوائح والأنظمة وركام التعاميم والتوجيهات، كل هذه الأمور يجب إعادة النظر فيها بطريقة الوقت والكفاءة والجودة النوعية وإعادة النظر في مفاهيم التقديم والتأخير في أولويات الدعاية والوجاهة والمحسوبية، لأن المعوقات في الوصول إلى الكمال تجدونها مختبأة داخل هذه الشوائب البيروقراطية والمفاهيم الاجتماعية.
أما ما يخص الجودة النوعية في المنتوجات الصناعية والتجارية فهذه مسألة تتطلب التأجيل، لأن الجود من الموجود الذي هو المهارات البشرية الغائبة أو الناقصة. الاعتماد على استيراد المكونات الصناعية والتجارية ثم تركيبها أو تعبئتها محلياً وطرحها في السوق ليس صناعة ولا تجارة وطنية بدءاً من الاستلام حتى التسليم.