إذا كان (إدخال الفيل في خرم إبرة) مستحيلاً، فلا يجوز الاعتقاد أن (آخر العلاج هو الكي)، ولكن المتسلطين منذ بداية التاريخ الحضاري للبشرية استخدموا شتى الوسائل لإدخال الفيل في خرم إبرة! ولمّا فشلوا لم ينفكّوا يستخدمون (الكي) حتى لو كانوا على يقين أنه لن ينجح أيضاً.
شهدت الحضارة الإنسانية منذ نشوئها في نهاية الألفية العاشرة قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين (انظر فراس السواح - تاريخ السومرية والأكادية) صراعاً اجتماعياً شديداً، تجلى في حروب طاحنة إبّان العهود القديمة بلغت ذروتها في المراحل الانتقالية.
فكلما بلغ النمو الاقتصادي-الاجتماعي طوراً لم يعد فيه النظام القائم مناسباً لاستمرار التطور، تنشأ ما يسمى المرحلة الانتقالية التي تستوجب علاقات إنتاجية جديدة.
ما معنى علاقات إنتاجية جديدة؟
أسلوب الإنتاج في العبودية مثلاً، يتطلّب أن يملك السيد عبيداً وأرضاً مستقلة عن أراضي السادة الآخرين، وهذا ما يسمى في علم الاجتماع البناء التحتي.
الأسلوب العبودي في الإنتاج يتطلّب قناعة العبد بقَدَرِه ويكون ليس مزارعاً أو راعياً وحسب، إنما مدافعاً عن سيده وتلك الأرض المستقلة بواسطة عبادة الصنم (الوثن) المصنوع من طرف السيد خصّيصاً لتلك الأرض، بحيث يختلف عن الأصنام المصنوعة للأراضي الأخرى.
هذه القناعة لدى العبد (المنتج للثروة) ضرورية لمسار عملية الإنتاج، وتسمى (البناء الفوقي).
البناء الفوقي إذن هو (قناعة)، وبالتالي هو متعلق بكل ما يخدم تلك القناعة، أي كل ما يتعلق بالوعي. من هذا المنطلق نجد أن المعتقدات الدينية والأعمال الفنية والقيم الأخلاقية وغيرها، موجّهة لتلك القناعة سلباً أو إيجاباً.
البناء التحتي إذن هو الأساس الاقتصادي الذي يحدد شكل وكمية الإنتاج، أما البناء الفوقي فهو الشكل الهرمي للعلاقات الاجتماعية وشكل السلطة السياسية وما يتبع ذلك من حصص للفئات المختلفة في توزيع الثروة، والأهم من ذلك كله هو القناعة لدى الفئات المنتجة بالعدالة في ذلك التوزيع.
كيف يمكن إقناع العبد -أساس الإنتاج- أن حصته من الثروة هي فقط ما يبقيه على قيد الحياة؟ وحصة سيده هو كل الإنتاج؟ وأن ذلك عدالة؟
شاع في زمن الوثنية أن الله سبحانه وتعالى يريد العدالة لكل البشر، ولكن الوثن يريد منك أيها العبد ألا تعترض على قَدَرِك، وأن تكون موالياً لسيدك وترتبط بأرضك وتعادي العبيد الآخرين في الأراضي الأخرى، وإياك أن تتحد مع العبيد المارقين ضد الأسياد لأن قدرهم هم أيضاً أن يكونوا أسياداً.
على صعيد العمل وظّف الأسياد جزءاً من العبيد ليحملوا السوط وجلد كل من يتوقف عن العمل احتجاجاً على (قدَره)، وقد تصل العقوبة إلى السجن أو التصفية الجسدية. كل ذلك مُبرّر لأن السيد يملك العبد، وله الحق المقدس أن يفعل به ما يشاء.
حامل السوط هذا والذي هو عبد أيضاً، هو شكل السلطة السياسية في ذلك الوقت، ولكن البناء الفوقي لا يقتصر على السلطة التنفيذيّة وحسب، إنما يشمل التشريع والقضاء واللاهوت والفنون (الفكر والشعر والتشكيل والنثر والموسيقى)، أي كل المؤثرات على الوعي الاجتماعي. لذلك كانت النافذة التي تطلّ على الصراع الاجتماعي إبّان الوثنية هي المعبد.
في العبودية كان سقراط وأفلاطون وأرسطو كهنة في المعبد، ولم يكونوا عبيداً، ولم تنجهم عبقرياتهم من الإعدام أو الإقامة الجبرية أو التضييق المؤدّي إلى الانتحار، لأنهم ببساطة جزء من البناء الفوقي، فهم موظفون لدى السيد ويأكلون من خيرِه، وبالتالي يجب أن يخدموه بإنتاجهم الفكري أو الفني.
البناء الفوقي – الموجه لوعي المنتجين – يشمل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلامية والفكرية والفنية ومؤسسات المجتمع المدني والعرف الاجتماعي أيضاً.
تقسيم العلاقات الاجتماعية إلى بناء تحتي وفوقي هو عمل علمي بحت، ولا يعني أبداً أنهما منفصلان عن بعضهما البعض.
العلاقة بين البناء التحتي والفوقي هي الأساس في كل التشكيلات الاجتماعية، من بداية الحضارة مروراً بالعبودية والإقطاع وصولاً لعصرنا الحالي - عصر الرأسمال.
ما يشير له علم الاجتماع عن طبيعة تلك العلاقة هو:
1 - علاقة وجودية: أي أنه لا وجود لأحدهما من دون الآخر، فعدم وجود بناء تحتي أو فوقي يعني لا وجود للدولة.
2 - في البلدان غير المستعْمَرة يحدد البناء التحتي طبيعة البناء الفوقي، ولكن هذا التحديد ليس باتجاه واحد، حيث يؤثر البناء الفوقي على التحتي، ويمكن أن يؤدّي إلى تغييره بالكامل، وذلك إبّان الثورات والتحولات الاجتماعية الكبرى.
3 - تشكِّل العلاقة بين البناء التحتي والفوقي مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي، أي أنها ليست ثابتة على منوال واحد حتى قبل الثورات، والذي يحدد التغيير هو الصراع الا جتماعي القائم.
4 - التشكيلات الاجتماعية التي مرت بها البشرية منذ بداية الحضارة هي: ما قبل العبودية ثم العبودية ثم الإقطاع ثم الرأسمالية ثم الاستعمار.
5 - التشكيلة الاجتماعية تمثل العلاقة ذات التأثير المتبادل بين البناء الاقتصادي (التحتي) والبناء السلطوي (الفوقي) تسمى الدولة.
6 - كل التشكيلات التي مرت بها البشرية منذ بداية الحضارة قائمة على (الاستغلال)، حيث توجد فئة قليلة غير منتجة تمسك بالسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلامية والفكرية، مقابل الغالبية المنتجة للثروة ولا تملك شيئاً، والتي تتوق نحو العدالة الاجتماعية.
7 - الاستغلال أو الاضطهاد لم يكن موجوداً منذ بداية المجتمع البشري، إنما نشأ بعد الحضارة، وهو منافٍ للأساس الذي نشأ عليه ذلك المجتمع - ألا وهو (العدالة الاجتماعية)، وبالتالي لا بد أن يختفي في مرحلة تاريخية ما.
هذه المؤشرات التي يؤكّد عليها علم الاجتماع تنطبق على التركيب الاجتماعي ومجريات الصراع في الدول غير المستعمَرة، ولا يشير علم الاجتماع الذي تقود منجزاته الجامعات الغربية إلى البناء الاجتماعي والصراع في الدول الواقعة تحت هيمنة الاستعمار إلا من بعيد، ودون المساس بتسلط المافيات الاستعمارية على مقدرات وتطور الدول النامية.
كما أن علم الاجتماع الغربي ذاته لا ينبس ببنت شفة عن مجريات التطور في الدول الصناعية، غير المستعمَرة شكلياً، ولكنها واقعة تحت رحمة الشركات عابرات القارّات، التي تسيرها خدمةً لمصالحها الخاصة عبر حكومات (منتخبة) ولكنها غير وطنية.
فما العلاقة إذن بين البناء التحتي والفوقي في المجتمعات الاستعمارية؟ وما تلك العلاقة في الدول النامية الواقعة تحت الوصاية الاستعمارية؟ أو الدول ذات التوجه اللارأسمالي؟
للإجابة على هذه الأسئلة الملحّة وغيرها لا بد من تسليط الضوء على مخاضات الصراع في مرحلتنا الانتقالية الحالية.
- د. عادل العلي