سلطان السعد القحطاني
صدى الإبداع:
تذكرت مقولة (الشيء بالشيء يذكر) وأنا أكتب مقال هذا الأسبوع عن مبدع كافح الفساد في بلاده اليمن؛ حتى نعم من جاء بعده بالتعليم الذي كان يضعه في أولويات إخراج بلاده من تخلفها، فانتشرت المدارس وعمّ التعليم أرجاء الوطن بمساعدة الأشقاء من العرب، وفي مقدمتهم السعودية ودول الخليج، هذا بالمال وذاك بالطاقات البشرية، وكذلك الصحة والمواصلات وغيرها من متطلبات العصر، وكان أول وزير للتربية والتعليم بعد نجاح الثورة. وبعد خمسين عاماً على مقتله على أيدٍ آثمة غادرة يحيي المخلوع علي عبد الله صالح وشلة الحوثيين، النكرات في تاريخ اليمن، تنفيذاً لأجندات أسيادهم في طهران لتقويض البنية العربية التي نعم بها أبناء البلاد لمصلحة العجم الضالين السبيل، وهيهات لهم ذلك، والتاريخ يقول إن الأعاجم إذا هموا بحرب فإن ذلك يعني زوالهم، وهذا أمر أجمعت عليه كل المصادر التاريخية. فدعونا نسيح مع من أراد لهذه البلاد التقدم والرقي في رحلته ونضاله من أجل التقدم والحرية، بعكس من أرادوا لها الدمار.فمن هو؟
محمد محمود الزبيري، شاعر وسياسي يمني. ولد في حي البستان التاريخي في صنعاء القديمة، عام1910 للميلاد، من أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، يشتغل بعض أفرادها بالقضاء، والآخرون بالتجارة.
كانت اهتمامات الزبيري الخاصة سبباً في ابتعاده عن اهتمامات الأسرة المذكورة، فقد نشأ منذ طفولته نشأة دينية تميل إلى التصوف، جذبته إلى الروحانية، فلم يكن ميالاً إلى القضاء، ولا مولعاً بالتجارة!!! وهذه نزعة غريبةٌ في مسيرة حياته، فكان سياسياً وصوفياً في آن واحد!!! ومن النادر أن تجتمعا في شخص مكافح مثله.
نشأ في صنعاء وبها بدأ تعلُّمَه، وأكثر من القراءة والتثقف في شتى العلوم والمعارف، وعشق كما ذكرنا الصوفية، وتأثر تأثراً شديداً بتعاليمها، ومن المفارقات أنه عشقها وتأثر بها، وعمل بنقيضها (السياسة) وتأثر بما حوله من البلاد العربية التي بدأت ترسم طريقها نحو التحديث والعلوم والمعارف العامة، بينما بلاده ترزح تحت نير الجهل والتخلف، وأول هذا التأثر ميله إلى الشعر والأدب بشكل عام، حيث فتح ذهنه وتفكيره، فدرسه حتى تمكن من أدواته، ووجد أن هذا هو السبيل لإخراج بلاده من تخلفها.
كانت أولى رحلاته قبل نشوب الحرب العالمية الثانية إلى مكة المكرمة، فدرس فيها بعض الوقت على علمائها، ثم ذهب إلى مصر عام 1939 والتحق بدار العلوم، وهي من هي في ذلك الوقت، ولم يكمل شهادتها، وعاد إلى اليمن في عام1941. وفي هذه الأثناء ألقى خطبة الجمعة في الجامع الكبير بصنعاء، متأثراً بالأجواء العلمية والفكرية في مكة المكرمة ومصر، وكانت تلك الخطبة فاتحة تجربته في السجون، إلا أن أصدقاءه توسطوا له عند الإمام يحيى حميد الدين، وخرج بعد تسعة أشهر، فنظم قصيدته المشهورة متحدياً خصومه، وهي التي يقول فيها:
خرجنا من السجن شم الأنوف
كما تخرج الأسد من غابها
نمر على شفرات السيوف
ونأتي المنية من بابها
ستعلم أمتنا أننا
ركبنا المنايا حناناً بها
فإن نحن عشنا فيا طالما
تَذِلُّ الصعاب لركابها
وإن نحن متنا فيا حبذا
تجيء المنايا لخطابه
والقصيدة طويلة وكلها تمجيد لنهضة البلاد وأهلها أسوة بالتطور الذي تشهده البلاد العربية في بداية نهضتها، كمصر وبلاد الشام والسعودية والكويت في ذلك الوقت، من مدارس حديثة، واقتصاد ونهضة عمرانية، وغيرها. وهذا يذكّرنا بقصيدة علي محمود طه (أخي جاوز الظالمون المدى)
فإما حياة تسر الصديق
إما ممات يغيض العدا
حين مقتل الإمام يحيى حميد الدين ظن الأحرار أن الثورة نجحت، وظنوا أن ابنه الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين سيغيّر من سياسة أبيه المتخلّفة، لكن الثورة فشلت، وتولى الإمام أحمد مكان أبيه وقام بتصفية خصومه، مما حدا بالزبيري ورفاقه إلى الهروب إلى عدن، وسبق أن أسس مع رفيق دربه أحمد محمد نعمان حزب الأحرار هناك عام 1944 ، وكان الزبيري ورفاقه يرون في الإمام الجديد (أحمد بن يحيى) أملاً منقذاً للبلاد من تخلّفها، لكنهم سرعان ما اكتشفوا وهمهم فخرجوا بدعوتهم الإصلاحية فارين إلى عدن من السجن الكبير (اليمن) كما كان يسميه الزبيري نفسه.
وهناك أسس من خلال الجمعية اليمانية الكبرى صحيفة (صوت اليمن) واستمر كفاح الجمعية حتى ثورة 1948 ، لكن الثورة سرعان ما فشلت وعاد الإمام أحمد حميد الدين وبطش بكل رجال الثورة، وفتح صنعاء أمام القبائل نهباً وتدميراً فغادر الزبيري اليمن ولم تستقبله دولة عربية واحدة، فذهب إلى باكستان، وهناك التقى الشاعر عمر بهاء الدين الأميري سفير سوريا لدى باكستان، وله مع الزبيري مساجلات شعرية، كما تذكر بعض المصادر للطرفين. وللأسف لم نطلع على شيء منها، ما عدا بعض الوريقات مكتوبة بخطوط أصدقائه.
وهناك نظم قصيدته المشهورة التي مطلعها:
ما كنت أحسب أني سوف أرثيه
وأن شعري إلى الدنيا سينعيه
وكنت أحرص لو أني أموت له
وحدي فداءً ويبقى كل أهليه
تعتبر سنة 1952 ، منعطفاً مهماً في حياة الزبيري، حيث قامت الثورة المصرية، فطار عقله إلى العودة إلى القاهرة تاركاً باكستان، وبدأ نشاطه من هناك مع رفيق دربه، أحمد محمد نعمان، بتجميع صفوف الطلاب اليمنيين في مصر والسودان، مع أن ذلك لم يرض السلطان المصرية في ذلك الوقت، لأن المسؤولين يريدون كسب ود العرب لمشروعهم القومي.
كان الزبيري يلقي قصائده من إذاعة صوت العرب، وتذكر بعض المصادر أن له دوراً في إنشائها! وكان لهذه القصائد والخطب الدور الكبير في إنقاذ الأحرار داخل اليمن من الإحباط واليأس، مثل المرض والجهل والعزلة، في الوقت الذي أخذت البلاد العربية خطواتها الأولى في التقدّم نحو التعليم والتثقيف، ومكافحة المرض والجهل، وغير ذلك. وكان الزبيري يقول:
«كنت أحسُّ إحساساً أسطورياً بأنني قادر بالأدب وحدِه على أن أقوض ألف عام من الفساد والظلم والطغيان».
كان الزبيري وطنياً بكل ما في الكلمة من معنى، أجمع الناس على حبه مطالباً بالحرية والتقدم، في مقالاته وخطبه وشعره، وكانت قصيدته ذات العنوان (سجل مكانك) من أبلغ ما قيل بعد نجاح الثورة اليمنية، حيث كان يقال له: اترك عنك هذا التشدد، فأنت قُلة، والقلة لا تكسر الحجر، وبعد نجاح الثورة، قال لصاحبه، ما رأيك: هل كسرت القلة الحجر؟ يقول في هذه القصيدة:
سجل مكانك في التاريخ يا قلمُ
فهاهنا تُبعث الأجيال والأممُ
هنا البراكين هبت من مضاجعها
تطغى فتكتسح الطاغي وتلتهم
شعب تفلت من أغلال قاهره
حراً فأجفل عنه الظلم والظُلَم
نبا عن السجن ثم ارتد يهدمه
كي لا تكبل فيه بعده قدم
إن القيود التي كانت على قدمي
صارت سهاماً من السجان تنتقم
إن الأنين الذي كنا نردده
سراً غدا صيحةً تصغي لها الأممُ
والحق يبدأ في آهات مكتئب
وينتهي بزئير ملؤه النقم
جودوا بأنفسكم للحق واتحدوا
في حزبه، وثقوا بالله واعتصموا
لم يبق للظالمين اليوم من وزرٍ
إلا أنوف ذليلاتٍ ستنحطم
والشعب لو كان حياً ما استخف به
فردٌ ولا عاث فيه الظالم النهم
تعد هذه القصيدة من أجمل وأبلغ شعر محمد محمود الزبيري، رددها الناس في كل محفل ومناسبة، وتعددت مؤلفاته ما بين دواوين شعر، منها ثلاثة مطبوعةٌ، وهي: صلاة في الجحيم، وثورة الشعر، ونقطة في الظلام.
ورواية خيالية بعنوان (مأساة الواق الواق) وبلاد الواق الواق خيالية لم توجد على خارطة العالم، وكان يرمز بها إلى اليمن، فهو في رأيه خارج العالم بتخلفه. وهناك عدد كبير من مخطوطاته لم تطبع على حد علمي.
شغل محمد محمود الزبيري بعد الثورة وزارة التربية والتعليم، للمرة الثانية، فالأولى في الثورة التي لم تنجح 1948 وكان مسماها( المعارف).
ومما يؤسف له أنه اغتيل في طريقه إلى مؤتمر معارض للجمهوريين، في شهر إبريل من العام 1965بأيد آثمة لم تقدِّر مجهوداته العلمية والوطنية.
رحم الله الزبيري الذي قضى ما يزيد على خمسين عاماً في خدمة أمته، منذ أن كان طالباً إلى آخر يوم في حياته.