عبدالعزيز السماري
إذا أردت أن تدرك حقيقة الموقف من العلم في ثقافتنا السائدة، فعليك مقارنة احتفالية اليهود التاريخية بإنجازات ألبرت آينشتين، وتقديمه على أنه مثال النبوغ اليهودي عبر التاريخ، بالموقف الإقصائي والتكفيري للعبقري وصاحب الإنجازات العلمية التاريخية ابن الهيثم.
استثمر اليهود نبوغ آينشتين في دفع أجيالهم الجديدة في اتجاه البحث العلمي، وكانت النتيجة أن أصبحت الدولة الصهيونية في إنتاجها للأبحاث العلمية أكثر من جميع الدول العربية مجتمعة، بينما ما زال طلابنا يدرسون في المدارس الموقف التفكيري لأبرز علماء المنهج العلمي وأصحاب العبقرية الفذة والإنجازات العلمية في تاريخنا من أمثال ابن سيناء وجابر بن حيان والخوارزمي وغيرهم الكثير.
لقد أثبت العلم الحديث أن منهج ابن الهيثم التجريبي هو الصحيح، وهو القائل «إن البحث عن الحقيقة هدفه، وأن يستنكر جميع ما يقرأه، ويستخدم عقله حتى النخاع لبحث تلك الأفكار من كل جانب، وعليه أن يتشكك في نتائج دراسته أيضًا، حتى يتجنب الوقوع في أي تحيز أو تساهل»..
وبرغم من ذلك تسيطر الثقافة المهزومة حضارياً على العقول في عصر العلم الحديث، وما زال المجتمع يدين لها بالتبجيل برغم من تسلطهم على المجتمعات وحصارهم للعلم منذ سقوط غرناطة، ومع ذلك نحتفل بهم ونجلهم وهم من قتل العلم في مهده في تاريخ العرب والمسلمين.
قتلت ثقافة التفتيش الديني الحضارة العلمية في تاريخ العرب، وقد قادها بعض الفقهاء المتطرفين الذين أشعلوا النار في كتب العلماء الحقيقيين، وكان ثمن ذلك أن احترقت حضارة الأمة بسبب التكفير واتهام العلماء بالإلحاد والزندقة، وما زالت تُمارس الأساليب نفسها في العصر الحديث، ومع ذلك ما زالت تجد القبول من العامة بسبب ارتفاع نسب الأمية المعرفية.
اعتذروا لهم، فقد أثبت التاريخ في مختلف فصوله فضلهم وأسبقيتهم في مجال العلم، بينما لم تقدموا إلا ثقافة التكفير والانتحار، ورغم ذلك تكابرون وتروجون أن تكفيركم وتطرفكم مثال للدين الصحيح، الذي يحض على العلم، وذلك ليس صحيحاً، فقد ناهضتم دخول العلم الحديث من مختلف الأبواب إلى أن سقط وفقد زمام المبادرة من أيديكم.
لدي يقين، لا شك فيه أن الدين النقي، وكما أُنزل لا يتعارض مع العلم والمنهج العقلاني، لكن لا يعني ذلك أن المناهج المعاصرة التي تكفر وتحرم وتمنع وتتهم وتقصي تمثل نقاء الدين، ودليل ذلك أن مشايخهم يتصرفون بفوقية في أحكامهم ضد الآخرين، ويعتبرون أنفسهم خارج حساب المجتمع، وأن لهم حق التكفير لمن يرونه خرج من تبعيتهم.
أثبتت ثقافة التكفير وأساليب التبديع والإقصاء خطورتها على المجتمعات الآمنة، ويمكن وجه الخطورة في مهمة التلاعب بها في شؤون السياسة، وتاريخنا شاهد على ذلك، فقد أحرقت تيارات التكفير والإقصاء الدول التي كان تستخدمها في مآربها ومصالحها السياسية.
إذا كان اليهود في عصور تخلفهم وأميتهم وتوحشهم قتلوا أنبياءهم، فإن متطرفينا في تاريخ النكوص قتلوا علماءهم باتهامات الإلحاد والتكفير، وهم الذين أناروا طريق البشرية نحو دخول المراحل المتقدمة في مجالات الفيزياء والطب والكيمياء والرياضيات.
موجز القول إننا لا زلنا نقدم قدماً في طريق التقدم، ولكن تتبعها عشر خطوات إلى الخلف، والسبب فسح المجال أحياناًً أمام الأفكار الإقصائية في أن تسود العقول، بينما تعلمنا من التاريخ القديم والحديث أن العقل الديني الإقصائي لا يولد إلا الفتن والتطرف والإرهاب والتكفير، والحل يكون في نزع أنيابه قبل أن يغتال العقول.