د. عبدالحق عزوزي
إن البقاء في عالم مُعولم هو القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة والمتقلبة ونفس الشيء في المجال السياسي، فالبقاء لمن يستطيع أن يتكيف مع التغيرات والتطورات السريعة. وإلا لماذا انهارت الاشتراكية مثلاً؟ لأنها لم تستطع التكيف مع المرحلة المعاصرة للثورة العلمية والثقافية؛ وتفاقم هذا الوضع بفعل عدة ظواهر وعمليات أخرى بما فيها حالات العجز الكبيرة في حجم العرض، بالإضافة إلى عوامل ذات طبيعة سياسية أو دولية.
ثم إننا ننتمي إلى عالم معولم يتغير بسرعة، ولعل أكبر مثال على ذلك هو وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، إذ تُمثل الهزيمة التي ألحقها بهيلاري كلينتون نقطة تحول ليس فقط للسياسات الأمريكية بل للنظام العالمي كله. فيبدو أننا ندخل عصرًا جديدًا من القومية الشعبوية، يتعرض فيه النظام الليبرالي المهيمن الذي تم بناؤه منذ خمسينات القرن الماضي لهجوم من فاعلين سياسيين جدد. فالخطر والمصيبة الآزفة هو الانزلاق إلى عالم من القوميات التي تنتظر دولا عديدة خاصة في أوروبا، وإذا حدث هذا فإنه يمثل منعطفًا بالغ الأهمية مثلما كان سقوط جدار برلين في سنة 1989.
وقد أشار إلى هذا التحول بدقة صاحب نظرية نهاية التاريخ، العالم السياسي فرانسيس فوكوياما، حيث أشار في مقال نشرته صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية تحت عنوان «الولايات المتحدة ضد العالم.. أمريكا ترامب والنظام العالمي الجديد»، إلى أنه تُعري الطريقة التي انتصر بها ترامب أسس الحركة الاجتماعية التي حرَكها. فنظرة إلى خريطة التصويت تظهر أن دعم كلينتون تركز جغرافيا في المدن على طول السواحل، مع تصويت المناطق الريفية والمدن الصغيرة بقوة لصالح ترامب. التحولات الأكثر إثارة للدهشة كان في تسلله إلى بنسلفانيا وميشيغان ويسكونس، ثلاث من الولايات الصناعية الشمالية التي كانت ديمقراطية وبقوة في الانتخابات الأخيرة والتي لم تكلف كلينتون نفسها عناء تنظيم حملة في الولاية الأخيرة. فاز بمقدرته على الفوز بسبب العمال النقابيين الذين تضرروا من عدم التصنيع، واعدًا إياهم بـ»جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» من خلال استعادة وظائفهم التصنيعية التي فقدوها.
لقد رأينا هذه القصة من قبل. هذه هي قصة البريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، حيث تركز الناخبون المؤيدون للخروج بشكل مماثل في المناطق الريفية والبلدات والمدن الصغيرة خارج لندن. هذا الأمر صحيح أيضًا في فرنسا، حيث الناخبون من الطبقة العاملة الذين اعتاد آباؤهم وأجدادهم على الأحزاب الشيوعية أو الاشتراكية يصوتون للجبهة الشعبية التي تتزعما ماريان لو بان.
لا غرو أنه عندما نتحدث عن نظام عالمي ليبرالي، فنحن نتحدث عن نظام تجارة دولية قائم على قواعد، كان ذلك النظام وقوداً للنمو العالمي في السنوات الأخيرة. هذا هو النظام الذي سمح بتجميع أجهزة آيفون في الصين وشحنها إلى المستهلكين في الولايات المتحدة وأوروبا في الأسبوع الذي يسبق أعياد الكريسماس.
كما أنه سهل حركة ملايين البشر من بلدان أفقر إلى بلدان أكثر ثراء، حيث استطاعوا العثور على فرص أكبر لأنفسهم ولأطفالهم. هذا النظام عمل كما هو مُعلن، بين 1979 والأزمة المالية الأمريكية في 2008، وأدى إلى إنتاج عالمي من البضائع والخدمات بمقدار 4 أضعاف، وأخرج مئات الملايين من الناس من الفقر، ليس فقط في الصين والهند، لكن أيضاً في أمريكا اللاتينية ودول الصحراء الكبرى الإفريقية، كلام فوكوياما كله صحي، ولا أظن من جهتي أن الحرب التجارية والنظام العالمي الجديدين اللذين أعلنهما ترامب سيمكنان من جعل أمريكا قوية، ولا النظام العالمي أكثر أمنا ورفاهية...وتفهم جميع أولئك الذين حضروا افتتاح منتدى دافوس، خطاب الرئيس الصيني شي جين، عندما قال إن «لا أحد سيخرج منتصرا من حرب تجارية» في تحذير واضح للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الذي وعد بفرض قيود جمركية تستهدف الصادرات الصينية. وألقى جين بينغ خطابه أمام نخبة اقتصادية تواجه ريبة متزايدة من الشعوب الغربية وعداء متصاعداً للانفتاح على التبادل الحر، خلال المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يعقد في المنتجع السويسري. وقال أمام حوالي ثلاثة آلاف من قادة العالم الاقتصاديين والسياسيين، «يجب أن نبقى متمسكين بتطوير التبادل الحر والاستثمارات» خارج الحدود الوطنية وأن «نقول لا للحمائية»... فلا أحد سيخرج منتصراً من حرب تجارية، بل المطلوب هو إعادة توازن في العولمة لجعلها أقوى وأكثر شمولية واستدامة.