التدمير قائم على قدم وساق في الإعلام، واللوحات الإعلانية، والفن، والموسيقى، وفي الشركات التي إن قدر الله عليك ودخلتها وأنت لا تتقن العربية فإنه لن يسعفك سوى ما فتح الله به عليك من لغة الإشارة التي ستستعملها للطوارئ، وستجد أن لغة العرب لن تفيدك على الرغم من كونك وسط جزيرتهم!
سافرت إلى بلد خليجي (قبل أن أتعلم اللغة الإنجليزية) فلبثت ساعات أريد سؤال أحد عن مكان ما فلم أجد من يفهمني حتى هممت بأمر سوء! وفي نهاية المطاف قابلت أحد الإخوة السودانيين فكدت أحضنه من سعادتي به وكأنني قابلت أبي! حتى هو على ما يبدو سعد بي كثيراً إذ يبدو أن له أياماً يبحث عن العرب، ومن أنسه بي، جلس يتحدث إلي، وكان مما أخبرني به أنه عاش في السعودية ثمانية عشر عاماً ضمن أمور أخرى، وكأنه يريد أن يثبت لي أنه عربي لما رأى من عدم تصديقي! هذا البلد يُعد من أكبر المحتفلين اليوم بما يسميه (#اليوم_العالمي_للغة_العربيه)!! وأنا هنا لست بصدد ذم هذا البلد الشقيق، فنحن على آثاره سائرون، وإنما أشير إلى عمق المشكلة الحقيقي.
نسمع كثيراً من بعض الزملاء غير المتخصصين وغيرهم أنهم ضعفاء في العربية، وبالتالي فإنهم يتجنبون استخدامها، تجنبا للأخطاء المحرجة (أعني في كلياتهم ومناشطهم الثقافية... لا في البيت أو السوق أو الاستراحة). وأقول لهم: المسألة هينة. لا تعرب الكلمات، أي لا ترفع ولا تنصب ولا تجر إن كنت لا تعرف، ولكنك لن تعجز أن تستخدم عبارات مثل (اذهب، وادخل، ويجب أن تفعل، وسأختبركم... إلخ) بدل (روح، وخش، لازم تسوي، وحأختبركم...). وتستطيع أن تستخدم (عرْض، وفصْل، وقاعة، واختبار قصير، واختبار نصفي... إلخ) بدل (بريزنيشن، وتيرم، وكلاس، وكويز، وميد تيرم...).
وضمن الحديث عن الشكل والمضمون، سأسأل هنا ما الذي ساعد اللغة الإنجليزية على الانتشار؟ هل اكتفى أهلها بإقامة الاحتفالات والمؤتمرات والوسوم (التويترية) التي تملأ الدنيا؟ وهل لو فعلوا ستبقى حية وقوية ثم تواصل انتشارها؟ أليس الذي أبقاها هو استخدامها قولاً وكتابة؟ هل تظن أن الإنجليزي سيصمت لو سمعك تقول مثلاً: I go yesterday university?
وتعني: أنا أذهب أمس إلى جامعة
والصواب: I went yesterday to the university
وتعني أنا ذهبت أمس إلى الجامعة (جامعة معينة)
لا والله إنهم لا يدعونها تمر، أقولها عن تجارب عديدة. هم مؤدبون لا يقولون لك: إنك أخطأت، لكنهم يتظاهرون بعدم فهمهم لك حتى لو كان المعنى في غاية البساطة، ثم يعيدون لك الجملة مصححة ليقولوا: إننا لم نفهمك لأنك استخدمت أسلوباً خاطئاً، وهذا (المعاد) هو الأسلوب الصحيح.
بل ما الذي أعاد اللغة العبرية التي ماتت سريرياً لآلاف السنين؟ هل هي المؤتمرات أم الاحتفالات بيوم لغة عبرية، أم فرضها بوصفها لغة قومية تعبر عن هوية الشعب اليهودي الذي جاء من أشتات الأرض لا يكاد يعرف منها سوى كلمات دينية معدودة؟! أليسوا الآن يحترمونها لدرجة التقديس ولا يرضون تدريس العلوم إلا بها، ويترجمون كل ما استجد في العالم إليها بشكل دوري؟! لماذا يعيش اليهودي المحتل في محيط متلاطم من العرب ولا يعرف لغتهم إلا إذا درسها كتخصص؟! أليس لأنه يجلها ويركز اهتمامه على لغته التي يراها جزءاً لصيقاً من هويته؟!
إن الأصل في اللغة أساساً أن تُتعلّم عن طريق الأذن لا العين، أي الاستماع لا القراءة، وهذا هو ما يفعله الأطفال منذ ابنيْ آدم إلى اليوم، وسماع الأطفال في مدارسهم وبيوتهم للغة الصحيحة (أو المهجنة أو الرديئة) هي التي توقر في أذهانهم وتحتفظ بها عقولهم الباطنة، وتحضر على ألسنتهم عند الحاجة، وأما ما يتعلمونه نظرياً، فلا يكاد يتجاوز ورقة الاختبار، وهذا مشاهد لكل ذي بصيرة!
إذن لغتنا العربية ليست بدعاً من لغات البشر، وتخدير أنفسنا بهذه المظاهر الاحتفالية وشعارات من قبيل: العالم يتكلم #بالعربي أو #لغتي_هويتي أو #العربية_لغة_العلوم، أو بالادعاء بأن اللغة محفوظة بوعد من الله... كل هذا لن يفيدها في شيء، إلا كفائدة الشجرة المهملة التي تغمر بالمياه في أحد أيام العام. فالله تعالى وعد بحفظ كتابه ولم يعِد بحفظ اللغة، وحتى لو ذهبنا مع المحتجين بأن الذكر لا يُحفظ إلا بحفظ لغته (العربية) - مع أن هذا يبقى تأولاً معتمداً على حجة منطقية - ومع ذلك لو افترضنا أن ذلك هو معنى الآية الحقيقي، فإن الله تعالى إنما وعد بحفظ اللغة وليس حفظنا نحن وحفظ ألسنتنا من اندثار لغتها. والواقع يشهد أن شعوباً كانت العربية لغتها الرسمية لقرون قد أصبحت فيها اليوم نادرة أو معدومة، ومنها بلدان أعضاء في الجامعة العربية! كما أن الذكر ما زال محفوظاً في بلدان إسلامية لا تتكلم العربية، بل إنه محفوظ فيها أكثر مما هو محفوظ في بعض البلدان العربية!
إذا خدمنا لغتنا عبر هذه الأولويات وما يشابهها من الأمور التطبيقية استطعنا الادعاء بحق أننا نحترم لغتنا ونعمل على حمايتها. وعندما نهتم باللب ونربي أبناءنا وطلابنا على الجوهر الحقيقي لهذه المسألة، ولم نستطع الفكاك من الأمور (المظاهرية)، فعندئذ لا بأس أن نحتفل بيوم عالمي، على أن يكون الاحتفال فعالاً ومؤثراً، وليس شكلياً. ومن الاقتراحات التي تجعله فعّالاً:
1 - أن تجعل الحكومات هذا ا ليوم (18 ديسمبر [وواضح من نوع التاريخ احترام ثقافتنا!]) أن تجعله يوماً للتحدث باللغة العربية فقط، وتشجع على ذلك، وتقابل وسائلُ الإعلام الناس في الأسواق وأماكن التجمع، وترصد الجوائز تشجيعاً لمرتاديها، ممن يظهرون احترام لغتهم، وتفرض غرامات على أي صحفي أو منبر إعلامي يستخدم كلمة وافدة، في ذلك اليوم على الأقل، إجلالاً للغة القرآن في وطنها الأم. يُستثنى من ذلك ما كان لضرورة ملحّة (الأسماء مثلاً: تويتر، وفيس بوك، واتس أب، أنستقرام وما شابه... وليس منها: تاكسي، وميتينق، وويك إند... إلخ).
2 - أن تمتنع الجامعات، ومعاهد تعليم اللغات في ذلك اليوم (على الأقل)، عن تدريس أي لغة أجنبية، وبدلاً من ذلك تجعل حصص تلك الأقسام ومحاضراتها عن اللغة العربية وعن دورها في تاريخ العرب وحضارتهم وفي تاريخ العالم كله. فإن من الأجانب من يعيش بيننا ولا يعرف عن لغتنا شيئاً. ولقد قابلت أجنبياً ولد عندنا وعاش إلى سن الثامنة عشرة في بلادنا، ولا يستطيع أن يتكلم بجملة واحدة سليمة حتى بالعامية، فاستغربت وسألته، فقال: إنه نشأ في محيطه العائلي ولم يحتك بأحد من العرب، ودرس إلى أن أنهى الثانوية في مدرسة تتبع بلده وجاليته، ثم عاد لإكمال دراسته العليا في بلده! لماذا لا نعرفهم بالعربية في يومها العالمي؟!
- حسن بن جابر