ضمنت العرابة قدرًا سعيدًا لسندريلا، مكافأة لها على صبرها على قسوة زوجة الأب، ومرارة العيش في كنفها بعد رحيل والدها، وتمكنت - بفضل العرابة - من «العبور» إلى ضفة أخرى، يبدو عليها العشب أكثر اخضرارًا فعلاً! لم تبذل سندريلا جهدًا يُذكر في الحصول على ذلك، ولم تفعل أكثر من سكب الأمنيات في الهواء التي صادفت أذنًا مصغية، كفلت لها حياة رغيدة هانئة.
في رواية سيرة رجل ملون لجيمس ويلدون جونسون (ترجمة دعاء عبدالحليم عليان عن دار كلمات/ الكويت 2016)، ضمن البطل مجهول الاسم مصيرًا مماثلاً لمصير سندريلا، وعيشًا هانئًا خاليًا من المشاكل؛ لأنه اختار العبور «passing»، وهو مصطلح يقصد به انتقال شخص من عرق ما إلى مجموعة عرقية مختلفة، وغالبًا يكون هذا الشخص ذا أصول منحدرة من عرقين مختلفين، كما هي الحال مع بطل الرواية. فقد كانت أمه سوداء، ووالده أبيض من الطبقة الأرستقراطية في الجنوب، ولم يكن هو واعيًا لذلك، لم يكن مدركًا لكونه ملونًا إلا عندما طلبت المعلمة في المدرسة من الطلاب البيض النهوض، وحين فعل أخبرته بأن الحديث لا يشمله! كانت تلك بداية وعيه واختلافه عن الآخرين، رغم أنه عاش حياته مثل البيض متكئًا على بشرته الفاتحة التي لا تدل على أصله المزدوج.
اكتفى البطل بالتعبير عن اعتزازه بإرثه «العرقي» من خلال الموسيقى؛ إذ كان عازفًا ماهرًا على البيانو، وقد تعرف على غناء «الزنوج» وألوان موسيقاهم أثناء إقامته في الجنوب؛ الأمر الذي يجعله لاحقًا يتخلى عن «عرابه» الرجل الثري الأبيض الذي طلب منه مرافقته إلى أوروبا مقابل أن يعزف له كلما أراد، وأن يعود إلى الجنوب؛ ليطلع على تراث السود في الغناء. مرة أخرى يتوقف عن المضي في تحقيق حلمه البسيط هذا، حين شهد بنفسه حرق رجل أسود على يد مجموعة من الرجال البيض، ولم يتمكن من التدخل أو الاعتراض، بل اكتفى بالمراقبة «فأحيانًا يبدو لي أنني لم أكن زنجيًّا فعلاً، وبأنني كنت مجرد متفرج متميز على حياتهم الداخلية..». وكانت تلك هي اللحظة التي قرر فيها «العبور»، والتخلي عن كل ماضيه وماضي أسلافه، ورسخ ذلك لاحقًا بالزواج من شابة بيضاء، وبدأ بالانسحاب تدريجيًّا من الحياة الاجتماعية مكتفيًا بأسرته الصغيرة، ومحاولاً حمايتها بطريقته الخاصة «فليس من العار أن تكون رجلاً أسود، ولكنه شعور غير مريح أبدًا!».
تقول جويندلين بروكس: «لا تسمح لأي كان بأن يدعوك أقلية إن كنت أسود أو غير ذلك؛ لأن ذلك يجعلك أقل من الآخرين!». ربما كان هذا الشعور الذي ظل يراود البطل رغم أنه لم يكن ينقصه شيء في حياته، حتى لون البشرة الفاتح، لكنه ظل مؤمنًا بأن المرء يمكنه الحصول على كل شيء إن كان ذا بشرة بيضاء! ورغم أنه يعترف بأنه لم يكن مخلصًا «لزنجيته» إلا أنه لم ينكر أيضًا أنه اختار الطريق السهل، وأنه لم يكن شجاعًا بقدر صديق طفولته «اللامع» الذي واصل دراسته وصار أستاذًا في جامعة «للزنوج». لقد اعترف هذا الرجل بالفرق بينه وبين غيره من السود الذين اختاروا النضال، وصرح بجبنه في آخر الرواية؛ إذ يقول: «أنا لست إلا رجلاً أبيض عاديًّا ناجحًا، جمع القليل من المال، بينما هم رجال يصنعون التاريخ وعرقهم.. لا أستطيع قمع فكرة أنني بعد كل شيء اخترت الجزء الأقل، أي أنني بعت حقي الطبيعي مقابل صحن من الحساء»!
كثيرون قد يختارون العبور - دون أن يكون ذلك انتقالاً من عرق لآخر - يختارون الطريق الأقصر والأسهل للنجاة، ولكن ماذا لو أن العرابة لم تساعد سندريلا في عبورها؟ هل كانت ستستسلم هي أيضًا مقابل الحصول على طبق من الحساء؟!
- بثينة الإبراهيم