من معاني الفتنة في معاجم اللغة العربية الابتلاء والامْتِحان والاختبار, وأَصلها مأْخوذ من قولك فتَنْتُ الفضة والذهب إِذا أَذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيِّد. من هنا أتساءل ما هو المقياس الذي نستطيع من خلاله تمييز الكتابة العادية من الكتابة الإبداعية؟ وهل ابتليت الكتابة المعاصرة بكتّاب لا يعرفون نوع القالب الذي يصبون فيه قولهم, أم أن طلب الشهرة وحب الظهور هو الدافع لفعل الكتابة؟ لقد ظهرت القصة القصيرة جداً بوصفها جنساً قائماً بذاته مستقلاً ومتميزاً من باقي الأجناس الأدبية المجاورة له في أواخر القرن الماضي. وقد اشتغل العديد من المنظرين المعاصرين والباحثين الأدبيين على هذا الجنس منذ ظهوره حتى وقتنا الحاضر؛ بغية الوقوف على خصائصه الشكلية والنوعية, ورسم الحدود الفاصلة بينه وبين الأجناس السردية القريبة منه. ولعل من أهم تلك الخصائص: حضور عنصر الدهشة, والاقتضاب, وتركيب الجمل داخل النص, والعلاقة بين العنوان والحبكة والنهاية. وإذا أمعنا النظر في بعض الكتابات التي يدعي أصحابها أنها تنتمي إلى جنس القصة القصيرة جداً نراها بعيدة كل البعد عنها, بل إنها أقرب إلى كتابة الخواطر التي استدعتها أحوال وظروف معينة مرّ بها الكاتب. وهذا النوع من الكتابة يفتقر إلى المعايير الأدبية المتعارف عليها عند الأدباء؛ وهي التي تجعل من عمل ما عملاً أدبياً على حد قول «جاكبسون» الذي أرسى دعائم علم البويطيقا أو الشعرية على أسس بنيوية ولسانية وشكلانية موضوعية. فالشكل وحده ليس كافياً كي ندرج عملاً ما إلى منظومة الأجناس الأدبية, كما أن علاقة العمل بالسياقات الخارجية: النفسية والاجتماعية والتاريخية لا تمنحه القيمة الأدبية التي تتمثل في الجماليات اللغوية. إذن فاللغة هي المقياس الذي نستطيع من خلاله أن نعد هذا العمل نصاً أدبياً له موصفاته الخاصة. ففي السرود القصصية -على سبيل التمثيل- يتجرد الكاتب من لغته الشخصية ومفرداته اليومية؛ ليسلم السرد إلى راوٍ وشخصياتٍ قصصية لكل منها لغة خاصة تستطيع من خلالها أن تعبر عن حالتها الشعورية, لا عن حالة كاتب النص كما هو الحال في بعض الكتابات المعاصرة التي لا تنفك عن كاتبها حتى استحالت تسجيلاً للأحاسيس والمشاعر لا ترقى إلى مستوى الأدب؛ لذا يتعين على الكاتب التفريق بين اللغة العادية واللغة المجازية واللغة الأدبية. كما تعد اللغة المظهر المادي الوحيد الذي نستطيع من خلاله نقل الكتوب من خطاب عادي إلى نص أدبي له حدود ومعايير تسمح بتصنيفه أو تجنيسه بمسمى معين ( رواية, قصة, قصة قصيرة جداً...). وهنا تتجلى إشكالية كبرى متعلقة بجنس العمل ونوع القالب الذي ينتمي إليه القول حينما يكتب بلغة شعرية دون القص, ففي هذه الحالة لا تعدو أن تكون الكتابة خاطرة أدبية قامت على سرد المشاعر, لا كما يدعي بعض الكتّاب الذين يدرجونها ضمن جنس القصة القصيرة جداً. ويمكن أن نعزو ذلك الخلط الواضح بين الأجناس أو الأنواع الأدبية إلى عدم القراءة الجادة والاطلاع على تجارب أدبية متنوعة قبل الكتابة. ففي الفترة الأخيرة اشتد التنافس بين الكتّاب على الظهور في وسائل الإعلام المختلفة أو في مواقع التواصل الاجتماعي؛ طلباً للشهرة دون أن يكون للمادة المكتوبة أدنى اهتمام. ولعل القصة القصيرة جداً في مقدمة الأجناس الأدبية التي تأثرت تأثراً مباشراً من الانفتاح غير المنضبط على وسائل الإعلام الجديد؛ إذ برز على المشهد الثقافي كتّاب تخطوا حدود هذا الجنس الأدبي, ظانين أن عملية الكتابة فيه سهلة ميسرة لا تحتاج إلى جهد كبير, ولا يدري أولئك أنها من أصعب وأعقد أجناس الأدب على الإطلاق؛ لأنها تحتاج إلى قدرات فنية عالية على مستوى الشكل والبناء واللغة.
- د. متعب بن سعود البدراني