د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
استوقفني ما كتبه أستاذنا الدكتور عبدالله الغذامي بعنوان (أرقى الوفاء وفاؤك لنفسك) في العدد (16172) من المجلة الثقافية في صحيفة الجزيرة يوم السبت 9 ربيع الآخر 1438ه، مثّل لرقي الوفاء بموقف أستاذ الأدب والنقد بجامعة القاهرة د. عبدالمحسن طه بدر من رسالة الماجستير التي أعدتها السيدة جيهان السادات زوجة رئيس جمهورية مصر العربية محمد أنور السادات، فرأيت أستاذنا أورد من التفاصيل ما أعرف خلافه، فلما اتصلت به أخبره بذلك لم يكتف بقبول قولي قبولًا حسنًا بل دعاني لذكر ما أعرفه عن الدكتور بدر وفاءً له. واستجابة لدعوة أستاذنا الكريم كتبت.
كان كتاب الدكتور عبد المحسن طه بدر (تطور الرواية العربية الحديثة في مصر) جائزتي في مسابقة المقالة التي نظمها قسم اللغة العربية- كلية الآداب- جامعة الملك سعود، وعنوانها (حديث إلى كان) وهو حوار بلغة أدبية زويت فيه بلطف جملة أحكامها النحوية. وحين ابتعثت إلى جامعة القاهرة تشرفت برؤية الدكتور عبدالمحسن طه بدر، وكان يجلس على المكتب المواجه لباب غرفة المعلمين، لم تكن علاقتي بالدكتور تتعدى السلام ورده، كان يمنعني الحياء وهيبة تجلّله تراها في طول قامة وعمق صوت وتؤدة في الحديث وطريقة متميزة في التكلّم، كان على خلاف ما هو معهود من طريقة المصريين في تلطفهم في الحديث فكان يرمي بما يخطر بباله رمي الحجارة، فلا مجاملة ولا تزويق بل الصراحة التي ربما تؤذي الآخر، كنا وقوفًا أمامه يومًا من بلاد مختلفة، فأشارت زميلة إلى سعودية واقفة معنا، وقالت له: «بص يا دكتور رشاقة السعوديات»، فقال دون تردد: «آه، أصلهم ما كانوش لأيين يَكْلوا». ودخلنا يومًا وكانت السيدة جيهان السادات تجلس على الكرسي أمامه، وبينهما حديث، وكان مما قاله لها: «هوّ احنا دلوأتِ نقول لك إيه؟ سيدة مصر الأولى، ولّا الطالبة جِهان؟» فردت بلطف: الطالبة جيهان سعادتك، وتواصل الحديث ليقول لها «إلّا هوّ أنتو لَمّا مش عوزين نشارك في المؤتمر في فلسطين كنتو تؤولو، مش تجي الموافقة بعد نهاية المؤتمر»، وكانت السيدة جيهان السادات تستشير في كتابتها رسالة الماجستير بعض أساتذة القسم، رأيت أحدهم في يوم في بدلة أنيقة، فلم يسلم من لسان د.عبدالمحسن الذرب، قال له «أيه يا ... لابس ومِتأيف، هو أنت رايح تآبل الريّس؟»، وكان الرئيس السادات ربما دعا بعض الأساتذة لزيارته ولم يكن د.عبدالمحسن يقبل تلك الدعوة حتى اشتد إلحاح زملائه عليه فرافقهم مرّة، قال لي أستاذنا العلامة د.سعد مصلوح أطال الله عمره، كان السادات في تلك الزيارة يقطع بيده الفطير المشلتت ويعطي د.عبدالمحسن؛ ولكن هذا يرفع صوته بقوله: يا فخامة الريّس الناس عاوزة مزيد من الديموقراطية، فقال له السادت: أيه يا عبدالمحسن أنا عمّال أَأَطع لك المشلتت بنفسي، فيه ديمقراطية أكثر من كده!». كان د.عبدالمحسن قويًّا في الحق، شهدت مناقشة رسالة طالب بإشرافه ورأيته كيف يدافع عن عمل طالبه دفاعًا علميًّا رائعًا، وكان من ضمن من زجّ بهم في السجون لمخالفته التطبيع مع إسرائيل.
نوقشت رسالة الماجستير التي أعدتها السيدة جيهان السادات في عام 1980م، ونقل التلفزيون المصري المناقشة حيّة على الهواء بحضور رئيس الجمهورية، وكانت ردودها وحواراتها مع المناقشين مثار دهشة المشاهدين؛ إذ أظهر تمكنها ومعرفتها وذكاءها، ولا غرو أن عينت بعدُ محاضرة.
قال لي زميلي وصديقي الدكتور فهد عمر سنبل إنه كان في مكتب أستاذه د. حسين نصار المشرف على رسالتيه، وكان منكبًّا على قراءة بحث مُتَقَّدم به للمشاركة بمؤتمر عن طه حسين للنظر في مناسبته للمؤتمر، وإذا بمن يقف على رأسه يعرض عليه شيئًا: تفضّل. وهو يرفع يده ويهز كفه ممتنعًا من غير أن يرفع رأسه، وتكرر الإلحاح والرفض حتى تدخل د. حسين نصار بلهجة حازمة «ما تاخد يا فهْد»، وهنا رفع رأسه ليفاجأ بالسيدة جيهان السادات واقفة على رأسه وعلبة ملئت بشكلاطة فاخرة، ابتسم وأخذ واحدة، وهو مأخوذ لا يدري ما صنع.
أما رسالة الدكتوراه فهي التي تأخر شأنها ولم تجد صاحبتها من كانوا عونًا لها في عهد الرئاسة، وهذا يذكرنا بالقصة الشعبية عندنا «أصحاب الهيم»، فهنا جاء مثال أرقى الوفاء الذي عنون به أستاذنا مقاله وهو وفاء د. عبدالمحسن للحق حين وقف إلى جانب السيدة جيهان ونصرها. رحم الله أستاذنا عبدالمحسن وأطال بعمر أستاذنا عبدالله الغذامي.