ياسر حجازي
لا يقف (سؤال السلطة) في الخطاب التنويري عند حدود ممثّلي الأنظمة السياسيّة، وإن كان رهان الإصلاح في التنوير يتطلّب الإصلاح السياسي أساسا لإصلاحات اجتماعيّة واقتصاديّة وعلميّة، بل، يتعدّاها إلى مفهوم السلطة نفسه؛ السلطة بوصفها الإنسان، بوصفها أهم وأخطر وأبقى وأعنف وأنفع ما أنتجته حريّة الإنسان في مفارقتين متضادّتين: ذلك أنّ الحرية خلقت قيدها، فلولا الحريّة لم تكن السلطة، كما أنّ السلطة لم تكن لتوجد إن لم تكن هذه الحريّة: المعصم الذي أحاطه القيد. والإنسان لم ولن يتوقّف في علمه وعمله لتحويل مفارقات الحريّة والسلطة لمصلحة سعادته، وما يحميه أو يخفّف من مفارقاتها المأساويّة.
وكلا المفهومين: الحريّة والسلطة، يشكّلان منفردين ومستقلّين سؤالاً ضروريّاً، في خطاب التنوير، وفي أيّ خطاب مضاد: وتبقى الخلافات في ماهيّة طروحات هذا وذاك وغيرهما من الخطابات، وتأثيرهم الفعلي على الأرض: أيّهم يقدّم للإنسان ما ينفعه في حاضره ويخدمه في أمنه وحقوقه وتعايشه مع الآخرين المختلفين قبل المتشابهين؛
ما هي الحريّة التي تطالب بها وما حدودها أو أين تنتهي إذا كانت تبدأ في الخصوصيّة الفرديّة؟ ما هي السلطة مقارنة بماهيّة السلطة؟ وأين تقف لحماية الخصوصيّة الفرديّة؟
كيف تكون الحريّة جزءاً من السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة أو كيف يمكن التعبير عنها سلطويّاً؟ وما هي السلطة إذا كانت جزءاً من خطاب التنوير في أطروحاته وتصوّراته، وكيف يتعامل التنوير مع السلطة بوصفها سؤال الحريّة؟ فأنت لا تنكر الحريّة المطلقة في ذهن الإنسان وتصوّراته اللا-محدودة أو اللا-مقيّدة، فهي موجودة في الإنسان، ولربما هي طبيعة لا يستطيع الإنسان نفسه أن يتخلّص منها، كما أنّك لا يجب أن تغفل عن كون التصوّر والرأي والكلام بحدّ ذاته سلطة بمجرد قوله وكتابته ونشره، وخروجه من صندوق الخصوصيّة الذهنيّة (من مأمنه الحُرّ) إلى العلن، إلى المسؤولية: مسؤولية القول وسلطته في إضفاء معان قد تؤثّر سلباً أو إيجاباً في فضاء التلقّي والتأثّر، في الفضاء الإنساني الذي من طبيعته، التأثّر بالكلام والتصوّر والآراء القادمة من محيطه.
2 - كلاهما سبب لوجود الآخر:
الحريّةٌ والسلطةُ !
• ما أعنف هذه العلاقة السببيّة على الإنسان، وما أرحمها أيضاً.
• ما أوضحها، وما أعقدها معاً.
ولكن..
هل الحريّة شيئاً آخر غير السلطة؟ وأين يختلفان؟
3 - نتحدّث -هنا- عن السلطة كمفهوم إحيائي-غرائزي وثقافي (وهمي وعلمي)، إن كان وقاية من منظور حيواني بأبعاد بسيطة متعلّقة بالتكييف فقط، أو فوق ذلك تحت تأثيرات الوعي الأناني والوهم، وقاية وغاية من منظور إنساني بأبعاد معقّدة تركيبية، ولا نحصر المفهوم فقط في السلطة: من منظور إدارة العائلة، ومؤسسات ومفاهيم المجتمع، وقوانين وأنظمة الدولة، لطالما لا تكون إرادة جماعية دون إرادة فردية، ولا سلطة عمومية دون سلطة الفرد.
وهذا الذي يؤيد مشروعية تفكيك السلطة لا بمفهومها السياسي وحسب، بل بمفهومها النفسي والاجتماعي، وهذا لا يتمّ بمعزل عن تفكيك الحريّة نفسها؛ (لماذا تريد الحريّة؟ لماذا تخاف الحريّة؟ لماذا تريد السلطة؟ لماذا تخاف السلطة؟...) لطالما إن قمت بتفكيك الحريّة فعليّاً، وأخرجتها من صندوقها الذهني لوصلت إلى السلطة؛ وإن قمت بتفكيك السلطة ذهنيّاً، وأعدتها إلى صندوقها الذهني لوصلت إلى الحريّة من باب آخر.
فهل الحريّة هي تصوّراتك؟ والسلطة أفعالك؟
4 - الحرية والسلطة هنا حاضران بوصفهما الإنسان: وهمُهُ وعِلمُهُ، قوله وفعله، في تطويع نفسه أو الانقياد لها كعلاقة فرد مع نفسه، وعلاقاته المتنوّعة المستقرّة والمتقلّبة والمتعارضة والتكامليّة والمؤتلفة والمختلفة مع الآخر: بين مُتسلّط ومتسلّط عليه.
وحينما يُقال: «حرية يدك تنتهي عند حريّة أنفي»، كذلك يمكن لنا أن نفهم المقولة على النحو التالي: «سلطة يدك تنتهي عند سلطة أنفي» هل تختلف العبارتان؟ هكذا تتماهى الحريّة مع السلطة، ولا يعودان مختلفين من منظور فعلي، فكلاهما إلى حتميّة المسؤوليّة والتعارض، فالحريّة تستوجب المسؤولية وتؤدّي للتعارض حالها كالسلطة في مستلزمات المسؤولية وتبعات التعارض..
هل تبدو الحريّة من هذا المنظور وهماً وظلّا للسلطة داخل الإنسان؟ ما هو الفارق بين الحريّة والسلطة إذاً؟
أنتَ تأمّلْ وأَجِبْ أيّها القارئ؟