قاسم حول
«رودولف نورييف» راقص البالية الروسي الذي انسلخ عن وفد البالية الذي ذهب إلى فرنسا كي يعرض عظمة أداء فن البالية الروسي، قرر التمرد على عناصر الـ «كي جي بي» للمخابرات الروسية التي ترافق وفد البالية لفرنسا عام 1961، وأعلن رفضه عن وعي كامل العودة إلى روسيا والبقاء في فرنسا حين نجحت صديقته في إبلاغ البوليس أن «رودولف نوراييف» مطوق من قبل رجال المخابرات الروسية «الكي جي بي» في مطار باريس وهو يتعرض لشبه عملية اختطاف وحياته مهددة بالتصفية إذا لم يسارع البوليس الفرنسي في إنقاذ حياته. وكانت فرنسا قد شاهدت بانبهار شديد قدرة «رودولف نورييف» في أداء فن البالية والرقص التعبيري!
فيلم سينمائي عن راقص البالية «رودولف نورييف» يحمل عنوان «رقصة الحرية» عن راقص البالية الذي أذهل العالم بطريقته التعبيرية الرشيقة في الرقص، فلقد تعاونت مؤسسة «زي دي أف» الألمانية مع قناة «بي بي سي الثانية» البريطانية في دعم إنتاج قناة كونفاس البلجيكية. هذا الفيلم ضمن قصته الكاملة التي أعادت روائياً الحياة الوثائقية لراقص البالية الروسي «رودولف نورييف» مدعمة بالشخصيات التي تشكّل سيمفونية البالية في حياته الشخصية، صديقته وبعض الشخصيات الفرنسية التي رافقته في رحلة التمرد والحرية. كان الفيلم ينقلنا بين تمثيل حياته اليومية في هاجس الخوف والترقب وبين رغبته في التعبير عن مخزون طاقته الإبداعية على المسارح الفرنسية التي أذهلت عشاق فن الباليه.
تجربة إنتاج هذا الفيلم «رقصة الحرية» لمناسبة ذكرى رحيله عن العالم في هذا الشهر «يناير» تزامن مع تقديم مسرحية عن حياته على مسارح موسكو في هذا الشهر «يناير» وعنوان المسرحية «قفزة الحرية» التي تعكس قفزته التي اشتهر بها وهي يحلق كما الطائر في أجواء إضاءات المسرح وبين قفزته نحو باريس التي حققت له بما تملكه فرنسا من أضواء مسارح وأضواء نجوميته، التي شدت إليه جمهور فرنسا. فـ «رودولف نورييف» الذي كان يتقاضى من مؤسسته الروسية مبلغاً قد لا يتجاوز الثلاثمائة روبل شهرياً صار يتقاضى في بداية حياته ألفين وثمانمائة دولار يومياً ثم وصلت أجوره في تلك الحقبة من الستينيات إلى سبعة آلاف دولار يومياً. وأصبح من أثرياء الفنانين، وقد جمع مقتنيات نادرة شكّلت ما يشبه المتحف في مقره في فرنسا يزوره الفرنسيون والسائحون الروس تتملكهم الحيرة بين الحرية والشعور بالخسارة.
عندما عرضت مسرحية «قفزة الحرية» متزامنة مع فيلم «رقصة الحرية» فإن الجمهور الروسي وقف وقفة العتاب والانتقاد لهذا الطائر المحلق، لأنه اختار فرنسا مسرحاً لإبداعه وحرم جمهور روسيا من المتعة الذهنية والجمالية لما يمتكله من قدرة على تقديم البالية التي تعتبر روسيا من أهم البلدان التي تقدم هذا النوع من الفنون. لعل ما تجب الإشارة إليه أن مؤسسة المخابرات الروسية قد ترك حادث انسلاخ «رودولف نورييف» من وفدها إلى فرنسا قد رجعت مندحرة ما أدى ذلك إلى مناقشة هذا الموضوع على أعلى مستويات القيادة الروسية والحزب الشيوعي الروسي. وقد أصدر سكرتير الحزب الشيوعي الروسي ورئيس البلاد السوفيتية «نيكيتا خروشوف» قراراً بقتل «رودولف نورييف»! ما جعل الراقص الشاب المرهف يعيش حالة الخوف طوال مدة بقائه في فرنسا لحين سقوط الاتحاد السوفيتي.
فيلم «رقصة الحرية» تناول هذه الحكاية بسيناريو مشوق للغاية وقد نفذ بقدرة تقنية أصبحت من أبسط مقومات كاميرا الغرب وكذا هندسة الصوت وبرمجة الصوت. ما يجلب الانتباه في هذا الفيلم أن المزج بين ذكريات معاصري «رودولف» وبين طبيعة الأحداث التي مر بها قد أتقن بشكل يفوق التصور فيضعنا الفيلم وكأننا أمام مشاهد وثائقية حقيقية وليست أحداثاً منفذة درامياً.
إن مسألة الحرية والوطنية هي موضع نقاش اليوم في حالات مماثلة كثيرة تتعلق بالعسف الذي يمارس ضد المبدعين العرب من قبل أنظمتهم الدكتاتورية. ويذكرنا ذلك أيضاً بما قامت به الممثلة الألمانية «مارلين ديتريش» يوم لبست البدلة العسكرية الأمريكية بعدما حرر الحلفاء ألمانيا من براثن هتلر بعد الحرب العالمية الثانية. وحين جلب جثمان الممثلة «ديترش» رفض الكثير من الألمان أن تضم الأرض الألمانية رفاتها، وكانت قد لبست البدلة العسكرية الأمريكية تأييداً لما قامت به أمريكا في تحرير ألمانيا من النازية الهتلرية.
بقي أن نعرف بأن راقص البالية «رودولف نورييف» قد ولد فقيراً.. وهو ولد عام 17 مارس 1938 في قطار حين كانت والدته مسافرة في ذلك القطار. وحين بدأ حياته في مسرح البولشوي الروسي يقول إنه يشعر بالاختناق بسبب السلوك المخابراتي الروسي حتى داخل مؤسسات الثقافة والمسارح. وعندما امتلك حريته في فرنسا قال شعرت بأنني سأكون خالداً بعد رحيلي عن هذه الحياة.. توفى «رودولف نورييف» في السادس من شهر يناير 1993 وفي ذكرى رحيله هذا الشهر قدم فيلم «رقصة الحرية» في الغرب، وفي موسكو قدمت عنه وعن حياته مسرحية «قفزة الحرية».
فيلم «رقصة الحرية» نحتاج أن ننتج مثله أفلاماً ونتعلم منه كيف يمكن إعادة صياغة الواقع وحتى غير الموثق منه، أن نعيده كما لو كان وثيقة حقيقة.. ذلك يحتاج إلى آفاق من حرية الإبداع ويحتاج إلى أن تدعم هكذا إنتاجات من قبل الفضائيات العربية على غرار ما حصل من مشاركة ثلاث قنوات تلفزيونية أوربية في إنتاج فيلم واحد هو فيلم «رقصة الحرية» الذي يؤرخ لما لم يُؤرخ وينقلنا إلى حقب مهمة من التاريخ الإنساني.