د. حمزة السالم
تفترق علاقة العشق عن علاقة الزواج، بأن العلاقة الزوجية تضعف وتمرض بتكرار الهجران والصدود والفراق المتعمد، بينما العشق يزداد قوة وحلاوة بتكرار الصدود والهجران والفراق، وفي هذا قولهم:
وَبينَ الرّضَى وَالسُّخطِ وَالقُرْبِ وَالنَّوَى
مَجَالٌ لِدَمْعِ المُقْلَةِ المُتَرَقرِقِ
وَأحلى الهَوَى ما شكّ في الوَصْلِ رَبُّهُ
وَفي الهجرِ فهوَ الدّهرَ يَرْجو وَيَتّقي».
فالعشق والزواج شاهدان من شواهد عجائب النفس التي تجمع بين المتناقضات وتفرق بين المتماثلات. فأصل العشق هو الحرمان والفراق، وأصل الزواج هو اللقيا والاجتماع. فالزواج هو منتهى مُنى العُشاق. فمنتهى مُنى العشاق هو اللقيا والجماع. ولكن العشق يزول باللقاء لزوال سببه، وهو الحرمان والفراق، ولهذا شاهد عند العشاق في قولهم:
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها
ويحيا إذا ما فارقتها فيعود
لذا فالزواج واستمراريته هو من آيات الله. ولهذا دعانا خالقنا للتفكر والتدبر فيه، بعد أن بيَّن جلَّ شأنه قدرته في خلق المودة والرحمة بين الزوجين اللتين من شأنهما الحفاظ على هذا الرابط الإنساني الفطري العجيب، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. فمتى غاب هذا الرابط من المودة والرحمة تهاوى هذا الزواج صورةً وحقيقةً، أو قد ينهار حقيقةً ويبقى صورةً. وليست الحقيقة كالصورة التي لا روح لها مهما تظاهر متظاهر ومثَّل مُمثل، وقد قالوا في التظاهر:
وَإطراقُ طَرْفِ العَينِ لَيسَ بنافعٍ
إذا كانَ طَرْفُ القلبِ ليسَ بمطرِقِ
وشاهد إمكانية استمرارية الزواج الصوري هو قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}. ولاستمرارية الزواج الصوري الخالي من المودة والحب والرحمة، أسباب كثيرة من أهمها وأشرفها المروءة والنبل والوفاء في النفس البشرية النقية، ولهذا شاهد بعيد في قوله تعالى {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً}. فالآية وإن كانت في الإنكار على استرجاع المهر إلا أن جانبها الإنساني، المتمثل في المروءة والنبل والشهامة في الاستشهاد بالإفضاء والميثاق الغليظ، لا يخفى على من به شمم وفاء.
وأما استمرارية الزواج الحقيقي، فأسبابه قد بينتها آية الروم بأنها المودة والرحمة بين الزوجين والتي أعتقد أن الوفاء هو سببها. فالوفاء هو من يخلق الألفة والتآلف مع مرور الزمن. لذا فالوفي يسعد بزواجه ولو بعد حين، ومن هذا قولهم:
خُلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
ولهذا تكشف الأزمات والفراق والموت عن مدى تحابب الزوجين، ومن هذا بكاء جرير على زوجته:
لولا الحياء لهاجني استعبارُ
ولزرت قبرك والحبيب يزار
ولما ضاقت على ابن زريق البغدادي سبل الأمل، لم يجد إلا زوجته يبثها همومه في غربته ويتحسر على فراقها ويلوم نفسه: «رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ
وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ
وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا
شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ.