ياسر صالح البهيجان
اللغات البشريَّة الحيَّة استطاعت أن تحوِّل الشبكة الإلكترونية بكافة تجلياتها إلى ميدان للعراك الفكري والثقافي والمعرفي، عبر سعيها إلى تأكيد قدرتها على احتواء المنجزات التكنولوجيَّة الحديثة، وتسخيرها للإمكانات التقنية لفرض هيمنتها والبرهنة على قوَّتها الدلاليّة بوصفها لغة ليست خواءً، وإنما تحمل إرثًا ثقافيًا وحضاريًا يضمر الإشارة إلى تفوق قومية من القوميات أو سيادة لغة على غيرها من اللغات.
الصراع اللغوي يأتي امتدادًا لصراعات أخرى أيديولوجية وعسكرية واقتصادية لا تكاد تنطفئ نارها في سائر أرجاء العالم، لأن اللغة كائن حي معرض للآفات والأمراض وحتى الموت، وبموتها تندثر أمم وتغيب ثقافات وتطمر حضارات، وهي بهذا المفهوم تشكل هوية المجتمعات ولا تنفصل عن جوهر وجودها، فضلاً عن دور اللغة في ديمومة الأديان بحفظها للنصوص المقدسة، ما يجعل اللغات بحد ذاتها جزءاً من المقدس، والحرب من أجلها حرباً مقدسة.
ويتشكل الصراع اللغوي على الشبكات الإلكترونية عبر تسابق أفراد كل أمة وقومية في تعزيز تواجد لغتهم رقميًا، ومن خلال جعلها ثرية بالمعلومات والبيانات لتستحيل إلى مرجع رئيس، وبوابة لاكتساب المعارف، وتحقيق التطور والنمو الفكري للمنتمين لها من جهة، ومحفزة لغير الناطقين بها لتعلمها كشرط من شروط التقدم المعرفي من جهة أخرى، وهي بهذا المعنى صراع حضاري وأممي وثقافي، وإكساب تلك المعركة يفضي إلى علو كعب قوميّات على أخرى، ويسهم في وصف مجتمعات بالتحضر، ووصم آخرين بالتخلف والرجعية.
وبالنظر إلى المحتوى العربي على الإنترنت، فإننا نجد بأن اللغة العربية لا تزال غير قادرة على منافسة اللغات الأخرى كالإنجليزية والفرنسية والألمانية، وتحديداً فيما يتصل بالمحتويات العلمية والمعرفية والفكرية، إذ تأتي عادة بوصفها ترجمة لنصوص كتبت بغير اللغة العربية، ما أفقد حضورها الرقمي الوهج المأمول، وجعلها لغة عالة على غيرها، وهذه الحالة عززت من الصورة الذهنيّة المتشكّلة حول الناطقين باللغة العربية، والتي جسّد المتحدثين بلغة الضاد على أنهم أفراد عاجزون عن الإنتاج المعرفي والعلمي، وتلك الأوصاف الدونيّة تجاوزت الأفراد، لتفتح بابًا آخر يُنتقص من خلاله باللغة وبنظامها الصوتي والمعجمي وبدوالها ومدلولاتها.
اللغة العربيّة ستظل إحدى اللغات الكبرى والمؤثرة في الوجود الإنساني معرفيًا وحضاريًا، إلا أن الحالة الراهنة تكشف عن أنها لا تعيش أفضل حالتها على الصعيد الإلكتروني، نتيجة عدم وعي المؤسسات التعليمية والاجتماعية في العالم العربي بضرورة الاتجاه إلى تعزيز المحتوى الإلكتروني بوصفه جزءًا من الحفاظ على قوّة تأثير اللغة على المستويين الإقليمي والدولي، إضافة إلى دوره في تنمية الشعور بالاعتزاز بالهوية كقيمة وجدانيّة مهمة، إن سلمنا جدلاً بأن اللغة ليست مجرد حروف أبجديّة أو أصوات تنطق، وإنما هي مكون رئيس من مكونات التطوّر البشري، وإحدى الدلائل على مدى تقدم الشعوب في سلم الحضارة والمعرفة.