د. جاسر الحربش
قبل سنوات اختلس كاتب عدل وسمسار أجنبي مائتي مليون ريال. اتهم الدفاع عن كاتب العدل الجن بتلبس السارق، وأما السمسار الأجنبي فاستطاع مغادرة البلاد إلى جهة غير معلومة. لا أدري ماذا حصل لكاتب العدل ولا لجنيه الذي تلبسه ولا يهمني ذلك. المهم هو الملايين التي سرقت فهذه أود أن أعرف ماذا حصل لها.
بالأمس عذب أب سعودي طفلته الرضيعة نكاية بأمها وأرسل صور التعذيب إلى طليقته والدة الطفلة. في التحقيق معه زعم أن الجن تلبسه وأرغمه على ارتكاب الجريمة، وأيضاً لا أعرف ما الذي سيحدث لهذا المجرم. بالقياس، إن كان القضاء -آنذاك- قد قبل الترافع عن كاتب العدل بسبب الجن فمن المنطقي والمحتمل أن ينظر في جريمة معذب طفلته بنفس الطريقة.
الأطباء النفسيون السعوديون لا ينكرون في مقابلاتهم التلفزيونية أن السحر والعين والتلبس من الحقائق الثابتة، لكنهم ينكرون المفهوم المتداول عن أفاعيل هذه القوى أو الكائنات بالطريقة التي يروج لها أو يقبلها بعض القضاة والدعاة والمشعوذين وقطاع عريض جداً من عامة الجمهور. نفس المعتقدات كانت شائعة التعليل والتصديق عند أمم أخرى، ثم استبعدت تماماً من الطب التشخيصي والعلاجي ومن مسببات الاعتلالات النفسية بما فيها الفصام والصرع ومن القضاء بكامله الجنائي والحقوقي. تحول الحكم والتصرف في الطب العضوي والنفسي إلى تخطيط الدماغ وتحليل الدم والسوائل الفسيولوجية والتصوير الإشعاعي والعلاج بالصيدلانيات والجلسات التحليلية إلى آخره. نفس التحول القياسي العلمي حدث مع التعامل القضائي في الجنايات على وجه الخصوص.
التحولات العلمية المذكورة أعلاه لم تحصل عند الأمم الأخرى بناء على أوامر أو توجيهات من السلطات العليا، وإنما بانتشار التثقيف العقلاني المدروس بين الجماهير. سبق ذلك عندهم ثلاثة قرون من الحرب المكشوفة والمغطاة بين التنوير والجهل، قادها من طرف فلاسفة التنوير والعلماء التجريبيين، ومن الطرف الآخر ورثة التراث القديم بدون إمعان النظر فيه وتفكيكه إلى خرافي ومعقول، لأسباب يختلط فيها المصلحي بالاجتماعي بالجهل.
في النهاية ربح العلم المعركة عندهم ثم بدأت الثورة الصناعية، وعندما مخر أهلها البحار وجدوا أقواماً مثلنا تعيش في خرافات الماضي وتحت أقدامهم خيرات لا تحصى ولا تستغل، فاستعمروا البلاد واستغلوا ثرواتها لصالحهم، وما زال ذلك مستمراً لأن الجهل لا يستسلم بسهولة وخصوصاً إذا وجد من يستفيد منه.
بيت القصيد في هذه المقالة القصيرة ليس السحر والعين والجن، وإنما قدرة الجهل على سحر المجتمعات، ليس في الطب فقط وإنما في العبادات والمعاملات والتقديم والتأخير والتقدير والتحقير والتبديع والتفكير.
مجتمع هذه أحواله مسحور بتغييب العقل، وأخشى أن يقول البعض بل أنت المسحور أو المعيون أو الممسوس، أسأل الله العافية.