قرأتُ كتابًا بعنوان (السعودية: الموروث.. والمستقبل)، كتبه صاحب السمو الأمير تركي بن عبدالله بن عبدالرحمن، وكنت قد حصلت عليه من مكتبة دار الساقي في لندن الشهر الماضي، وكنت قد علمت من سموه بأن الكتاب لم يتم فسحه بعد في السعودية؛ لذا فهو لا يتوافر بعد بالأسواق السعودية. وحقيقة، وللوهلة الأولى، فقد استرعى الكتاب اهتمامي لأمرين: الأول عنوانه، والثاني كاتبه؛ لما يحمله شخص سموه من خبرة معاصرة، وعلم، وحكمة، وبعد نظر، تجعل من محتويات الكتاب مادة مهمة للمهتمين.
وحقيقة، بعد قراءة الكتاب وجدت أن الكتاب كُتب بعناية ودقة، تعكسان شخصية الكاتب، التي يلحظها كل من يعرف سموه عن قرب. الكتاب غني بالسرد التاريخي الضافي للتحولات للدول السعودية الثلاث دون غوص في التفاصيل الدقيقة، وهو ما عرّفه سموه بالموروث؛ إذ يرى أن الموروث التاريخي للعلاقة السياسية والدينية أثبت من خلال التاريخ أنها علاقة قوية ومتينة وضرورية، وأن البناء على هذا الموروث المنسجم الغني للانتقال إلى مستقبل أرحب وأفضل هو العمود الفقري لعملية التغيير التي يجب أن تحكم وتضبط عملية التحول للوصول إلى تغيير يحقق الاستمرار.
الكتاب جريء في طرحه؛ فقد احتوى على رؤى ومقترحات ضرورية، تحقق - من وجهة نظر الكاتب - التغيير الذي يعزز البقاء. هذه الخطوات تضع قدرًا من العبء، ليس فقط على القيادة السياسية، بل حتى الدينية؛ لعمل مواءمة إجبارية - إن جاز التعبير - لتحقيق التغيير الذي يعزز البقاء. ومن وجهة نظري المتواضعة، فقد أصاب الكاتب كبد الحقيقة في أغلب الخطوات التي اقترحها. لقد تطرق الكتاب إلى كثير من المقترحات والأفكار المؤثرة في سير السعودية نحو المستقبل، وأن هناك حاجة ملحة إلى إعادة بلورة موقف وإعداد خطة للتعامل مع التحديات الحالية من سياسية واقتصادية واجتماعية وتقنية؛ لتنقلنا إذا ما نجحنا إلى مستقبل أكثر أمنًا واستقرارًا وازدهارًا.
الكتاب يحمل أهمية خاصة لظروف الزمان أيضًا؛ كونه يأتي في خضم تحولات كبيرة سياسية، تشهدها بلادنا والمنطقة برمتها، وتشهد أيضًا تحولات عالمية إن لم تكن في موازين القوى فهي بالتأكيد في اختلاف بوصلة المصالح وبؤر التأثير. التحولات المتسارعة في الجانب التقني هي أيضًا تحديات تواجهها السعودية، ويوضح الكتاب الأهمية في تلقيها من المؤسسة الدينية، والتعامل معها بكل احترافية وشمولية في التعاطي بعيدًا عن ردود الأفعال؛ كون تلك التحولات ألغت الحدود، ووسعت القاعدة في العلاقة؛ وهو ما يتطلب التعامل معها بكل مهنية لتحقيق الانسجام المطلوب؛ كون الغالبية العظمى من المواطنين هم من فئة الشباب.
أقتبس من الكتاب واحدة من الأفكار التي أعجبتني؛ لملامستها القريبة ما نعايشه في واقعنا الآن، رغم أن الكتاب يعج بالكثير منها وما يفوقها في الأهمية: «مكانة الشريعة من الكيان تجعلهما أكثر من صنوين، بل من توأم ملتحم. وفصل هذا التوأم، مهما بلغت براعة الجراحين، لا بد أن يورث وضعًا، يحفه الكثير من الأخطار والمحاذير التي قد تودي بالحياة». ويمضي الكاتب ليؤكد «فالوحدة على صلابتها وتاريخها تصبح هشة إذا ما عرّضها أبناؤها إلى اتجاهات وتجارب، ليس لها قدر عال من الاطمئنان إلى نتائجها المحتملة» ص 214.
الخلاصة هي أن الكتاب ذو قيمة عالية -من وجهة نظري المتواضعة- كونه يحتوي على مقترحات ومبادئ جريئة، تصلح أن تكون ركائز أساسية لخطة شاملة للتعامل مع التحديات الحالية، أساسها البناء على الموروث، وتسخير كل الطاقات لمواءمة هذا الموروث مع التحديات المعاصرة والمستقبلية؛ لكي ندلف إلى مستقبل يعزز البقاء والاستمرار.