د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
المسافة بين الاحتراف والانحراف قصيرة جداً وعلى وجه الخصوص في المجال الرياضي. والاحتراف الرياضي موجود في كافة دول العالم تدعمه مداخيل ضخمة من التذاكر وعقود اللاعبين والنشاطات الإعلانية. وقد اشترى بعض العرب، من ذوي الدخل غير المحدود، أندية في أوربا للاستثمار المالي فيها، وكما توافينا الصحافة المحترفة فالاستثمار في هذا المجال قد يكون مربحاً، ولكن الفئة التي تكلمت عنها لا تضيف الأرباح البسيطة لثرواتها الكثير، وأرباحها الحقيقة هي في الرأسمالي المعنوي والاجتماعي التي تحاول اختراق دفاعاته في مجتمعات لا تقدر أي بشر خارج مواصفات البشرة البيضاء والعيون الزرقاء.
وقبل شراء الأندية اشترينا أيضاً أغلى الخيول وأسبقها، ورفعنا قيمتها إلى أسعار فلكية سالت لها لعاب لوردات بريطانيا، ودوقات فرنسا ولكسمبورج فتسابقوا لبيعها لنا. وسباق الخيل أيضاً رياضة مربحة كما يقال بسبب المراهنات عليها التي يحرّمها كثير من علمائنا. وكنت أقيم في بريطانيا في أيام حمى شراء الخيول الأوربية. والفرق بين قبل دخول العرب لسباقات الخيل وبعده، يلاحظ في تغير أسلوب المعلقين على السباقات. كانوا في السابق يركزون كثيراً على مالك الحصان والفارس والمدرب بشكل أقل، لأن امتلاك الخيل مظهراً من مظاهر التفاخر الاجتماعي الارستقراطي الأوربي، بلغتنا «مزاين خيول». وبعد أن اشترى العرب تقريباً معظم الخيول والفحول، ركز المعلقون على ذكر الفارس والمدرب، ويرد ذكر المالك العربي أحياناً على استحياء.
وانتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً حمى كلامية تصل أحياناً حد الاتهامات الباطلة، وأخرى حد الإسفاف تدور في معظمها حول بين من يعتبرون أنفسهم صحفيي المجال الرياضي، كرة القدم. وتشارك الفضائيات الرئيسة في مجتمعنا بشكل رئيس في تغذية هذه المناوشات لأنها تلعب على وتر التعصب الكروي لفئتي المراهقين والشباب، مع إدراك أنه لا رابط ضرورياً بين المراهقة والعمر. ودعيت ذات مرة من قبل محطة راديو لحوار حول التعليم، وفوجئت بأبنائي، الذين لم يسبق أن لفتت انتباههم مشاركات كثيرة سابقة في برامج حوارية، يسألوني عن هذه المشاركة تحديداً لأنّ بعض أصدقائهم اتصلوا بهم متسائلين، فعرفت فيما بعد أن هذه المحطة الإذاعية محطة رياضية.
البعض منا يستغرب من نشاط مثل مزاين الإبل، الذي يصر البعض على أنه جزء من تراثنا الشعبي. ومع أن امتلاك الإبل والعناية بها جزء من تراثنا فعلاً، سواءً تراث القبائل الظاعنة أو القبائل القاطنة، لكننا لم نسمع عن قبائل أو شخصيات اجتمعت لتستعرض إبلها وتفاخر بها. أي أنهم كانوا هواة وربما لم يلجوا بعد لمجال الاحتراف. ومع أن المزاين أصبح ظاهرة دولية: مزاين بقر، خراف، ماعز، قطط، كلاب، إلاّ أن أسعار الحيوانات لا تصل لمبالغ خرافية مع الاحترام الخاص الخالص لسفينة الصحراء، التي تحولت اليوم لجميلة الصحراء ووصلت أسعارها لعشرات ملايين الريالات، وتحولت قيمتها الأساسية من قدرتها على التحمل إلى شكل شفايفها، وآذانها، وطول عنقها، وانفهاق سنامها. وقد تحول مهرجان مزاين الإبل لتظاهرة تتبادل فيها سلع أخرى أيضاً، مما حدا بهيئة الترفيه الجديدة للنظر فيها كنشاط ترفيهي مستقبلي.
وعودًا على موضوع احترافنا الكروي، فليتنا قوّمنا حالنا قبل الاحتراف وبعده. قبل الاحتراف وصلنا كأس العالم مرتين، في إحداهما أبهرنا العالم بأسره، وبعد الاحتراف أصبحنا نغرز في رمال تايلند، وماليزيا. ومع أن صرفنا على المنتخبات تضاعف، ترتيبنا القاري والعالمي تراجع. مقدم عقود اللاعبين، البعض منهم بشهادة الثانوية العامة أو ربما دون ذلك، وصلت عشرات ملايين الريالات. ما شاء الله واللهم لا حسد، لا عب يستلم 500 ألف ريال شهرياً وهو على دكة الاحتياط، آخر يطلب ستين مليوناً مقدماً لتجديد عقده. والغريب أن هناك سباقاً محموماً لتسجيل هؤلاء المزايين من اللاعبين، بالطبع من أناس ليسوا من أصحاب الدخل المحدود، مع أن فضائح ديوننا مع لاعبين محترفين صف ثاني وثالث استقبلناهم من الخارج وصلت محاكم الرياضة العالمية والصحف الأجنبية. تدفع في لاعب عشرة ملايين ويكون في الملعب كسيارة فخمة بدون تأمين، ينبرش عليه لاعب من فئة «الهايلوكس» ويجيب خبر ركبته، فيقضي نصف عامه في ألمانيا أو فرنسا للعلاج مع وفد رعاية من النادي بتكاليف باهظة. دول أفريقيا الفقيرة ليس بها احتراف، واللاعبون يلعبون أحياناً مقابل الفنايل والغذاء فقط، أغرقت أوروبا باللاعبين المحترفين، ونحن لم يحترف من لاعبينا أصحاب الملايين إلا لاعب أو لاعبين في أندية درجة ثانية.
تخيلوا لو كان لدى البعض الوعي الكافي لاستثمار هذه الأموال في رعاية مدارس، أو أندية رياضية للعامة بأسعار مقبولة، ولا أقول دعم أبحاث في الجامعات حتى لا أبدو متحيزًا لوسطي الفكري، ورجعنا هواة كما كنا في الزمن الجميل وتوقفنا عن المزايدات التي لا طائل منها. فالرياضة في الخارج استثمار ولدينا استعراض. ولنعرف أن دولاً مثل إسرائيل، وسنغافورة، ونيوزيلاندا لم تصل لكأس العالم. والمثل المصري يقول: «إللي عنده قرش محيره يشتري حمام ويطيره».