د.فوزية أبو خالد
فيما كنت أتابع بما لا يخلو من حنق وتساؤل, متابعة العالم العربي «الطفولية» المفعمة بروح التعلُّق الأبوي و»التشره» على الراعي التاريخي الأمريكي, فيظهر القوم مشتتين بين الرجاء وانقطاعه, مرعوبين من احتمالات الفطام النهائي عن «ضرع الأم الغولة» عشية صعود الرئيس الأمريكي الجديد ترامب لمنصة التنصيب, استلمت عبر إحدى وسائل التواصل الاجتماعي رسالتين معبرتين عن موقف عقلاني من ذلك الحدث, بما بدا بصيص صغير في خضم ظلام عام بالعالم, خاص بنا كإحدى خصوصيات المنطقة العربية.
كانت واحدة من الرسالتين تطرح تصوراً لموقف مستقل من الحدث على الأرض العربية. وكانت الأخرى تقترح حلولاً عقلانية لما بدا وكأنه من اللامعقول الدرامي على المسرح السياسي الأمريكي المتمثّل في وصول الشوط الانتخابي إلى تلك النهاية غير المتوقعة بخروج مرشح مثل ساندرز مبكراً من السباق على ما كان يمثّله من قيمة معنوية منشودة لأمريكا في الفكر السياسي النقدي, وبسقوط هيلاري على ما كان يمثّله وصولها إلى سدة الرئاسة لو تم من قيمة دستورية مبتغاة لليبرالية الأمريكية بتمكين امرأة من موقع رئاسة الدولة لأول مرة في التاريخ الأمريكي. لتكتمل بذلك الفوز لو تم, كما كان الأمر بفوز باراك أوباما, صورة الحلم الأمريكي, وإن على مستوى رمزي أقرب إلى التخيلي.
الرسالة الأولى
وقد تمثَّلت الرسالة الأولى المشار إليها أعلاه فيما يخص موقف العالم العربي من تنصيب ترامب, في مقال متأجج بقلم الكاتب البحريني المستنير على فخرو. وفي تلك الرسالة - المقال حاول وزير التعليم البحريني السابق أن يستنهض ذلك الطرح العروبي الماضوي ويستلهم ما خاله خالداً من حس مشتركات الحلم العربي ليصل إلى خلاصة تستحق التذكير ببعض نقاطها, وإن كان من الصعب على رومانسيتها المغرقة أن تواجه شراسة الواقع وتشظيه. غير أن جمال تلك الكلمة على نزعتها الشمولية يكمن في قدرتها وسط هذا التردي أن تقول إن بالإمكان أن نكيد لبطش القهر بشيمة الصبر.. ومما جاء في تلك الرسالة كمعنى أو حرفياً النقاط التالية:
لا تشتطوا أيها العرب, لا تفرحوا بذهاب الرئيس الأمريكي الأسود السيد باراك حسين أوباما، ولا تيأسوا على مقدم الرئيس الأمريكي الأبيض السيد دونلاند ترامب, فكل منهما لا يمثّل إلا المصلحة الأمريكية أولاً وأخيراً، ولا يعشق إلا مصلحة بلده بطريقته. ولا يهم أي منهما ممن سبق أو ممن سيأتي أمر العرب، بل أمر المنطقة برمتها سواء في عملية التحالفات أو العداوات إلا بالقدر الذي يخدم تلك المصلحة.
«لن تتغير الثوابت الإستراتيجية الأمريكية لسياستها الخارجية.. بانتهاء ولاية الرئيس الديموقراطي ولا بابتداء ولاية الرئيس الجمهوري».
«سيبقى كيان العدو الصهيوني الحليف المقدم على كل حليف عربي، وستبقى العين الأمريكية مغمضة عن كل جرائم ذلك الكيان، وستستمر المساعدات العسكرية والمالية والعلمية والدبلوماسية بالزخم نفسه».
«لن تسمح أمريكا بوجود جيش عربي قوي قادر، ولا بقيام سلطة فلسطينية فاعلة، ولا بقيام نظام حكم ديموقراطي مستقل عن إرادتها وخدمة مصالحها».
«لن تتراجع أمريكا عن محاولاتها في الهيمنة على ثروات النفط والتحكم في كل السياسات المتعلقة بتلك الثروة»
الرسالة الثانية
أما الرسالة الثانية فكانت يوتيوب لرئيس بلدية نيويورك, وقِتت لتأتي في اليوم الرئاسي الأول من ولاية ترامب. وهي رسالة ظاهرها تطميني، وباطنها قانوني بما جعلها تبدو شكلا مدنيا سياسيا من أشكال مواجهة التصريحات التي أطلقها السيد ترامب من أول يوم لترشحه الرئاسي.
ومن النقاط التي جاءت في تلك الرسالة التالي:
كرئيس بلدية لنيويورك أعدكم بعدد من الضمانات التي لن تسمح لنتيجة الانتخابات الرئيسية النهائية أن تعطل الحياة الكريمة لسكان نيويورك.
«لو طلب من المواطنين الأمريكيين المسلمين تسجيل أسمائهم بناء على هويتهم الدينية فسنتخذ كل الإجراءات القانونية التي تمنع تنفيذ هذا الأمر».
«لو الحكومة الفدرالية أمرت الشرطة بتشتيت الأسر المهاجرة فسنرفض التنفيذ»
«لو الحكومة الفدرالية طالبت بترحيل المعلَّقة طلبات استيطانهم سنعين لهم محامين وسنبني على ما يقوم به المجلس البلدي لمنع التعرض لهم قبل البت قانونياً في طلباتهم».
«لو محكمة العدل طلبت من الشرطة المحلية القبض على المشتبه بهم بدعاوى عنصرية فلن نخضع، ولن نستبدل تعاضد ووئام الجيرة بسلوك عنصري».
«لو ستقطع المعونات الفيدرالية سنعمل على تأمين الحاجات الصحية للنساء» .
«لو جرى التعرض لمسلمين, يهود أو أي مجموعة عرقية أو إثنية. فسنجد من يتعرض لهم سيُوقفون وسيُحاكمون على فعلهم العنصري».
سنوظف كل ما بوسعنا من أدوات قانونية لحفظ حياة المساواة والكرامة للنيويوركيين.
انتهت الكلمة القصيرة التي أرادت مثل المسيرة النسائية الحاشدة بالرجال والنساء في العاصمة الأمريكية لليوم الأول من تنصيب الرئيس, أن تقول إن نتائج التصويت التي حملت ترامب للبيت الأبيض لن تصادر حق الأصوات الأخرى في معارضة تحوِّل تصريحاته إلى سياسات أو قوانين.
وهو موقف لخصته الناشطة جلوريا ستاينم بقولها: «إن أجبرت المسلمين على تسجيل أسمائهم فسوف نسجل أسماءنا جميعاً كمسلمين».
خرجت من تلك المتابعة «الميلودرامية» لمن يعنيهم الأمر من الأمريكيين ولمن لا يعنيهم الأمر مثل منطقتنا لولا عادة التوجس, ومثلي لولا العولمة المعرفية وعدت لقراءة قديمة كنت قد قمت بها في وقت سابق لورقة عمل عن المجتمع المدني. وحاولت بعد الجرعة الأولى من تلك الكتابة التنظيرية أن أتبعها بقراءة جديدة في ضوء ما جاء في الرسالتين. كان ذلك محاولة مني لموقّعة كل من الرسالتين كتعبير عن رد فعل مقاوم من المجتمع المدني مقابل فعل السلطة في الدولة, ولم يكن صعباً في المثال الأمريكي الماثل ألا يظهر التقابل التعارضي النافر بين سلطة الدولة وبين المجتمع المدني كأداة لتلك السلطة بتعبير المفكر الفرنسي ميشيل فوكو وكسلطة بحد ذاته رغم مواقف المعارضة. فقد كانت لغة المقاومة نوعاً من منعة الطرفين وليس صراعاً بينهما بالمعنى المحوي للصراع.
أما في المثال العربي كما مثّلته الرسالة / مقالة علي فخرو فقد كان من الصعب وزنها بميزان سلطة الدولة وسلطة المجتمع المدني، فاكتفيت بالنظر إليها في ضوء المقولة التالية للروائية الأمريكية السوداء توني موريسون:
«في زمن المحن تحديداً يكون وجودنا هاماً, نحن نتكلم, نحن نكتب, نحن نبتكر لغة. هكذا تلتئم جراح الحضارة».