د. جاسر الحربش
لأنني ضجرت وأضجرت من الكتابة الجدية الجافة، أحاول هذه المرة ترطيب الزاوية بشيء من الشعر.
صاحبكم مفتون بالشعر لدرجة تستبعدونها لطبيب درس في الغرب يتعامل مع الحياة بالمقاييس العلمية العملية. تعلقت منذ الطفولة بالشعر ومنه ذلك الوصفي القديم من عصور الجاهلية والقرن الأول بعد الإسلام، وأحب كذلك بعض الشعر الوصفي الشعبي من فترات ما قبل شعر الحداثة الشعبية. للمقارنة بين جماليات الوصف في الفصيح والشعبي اخترت لكم نموذجا ً من الشاعر المجهول جحدر العكلي، وهو فارس من اليمامة أيام الحجاج بن يوسف، ونموذجا ً من الشعر الشعبي للشاعر المعروف بديوي الوقداني من الطائف أيام حكم الأشراف في الحجاز.
قصة جحدر العكلي تستحق القراءة في كتب التراث، وله قصيدة متوسطة الطول يصف فيها حاله حبيس زنزانة مظلمة في أحد سجون العراق بعد أن احتال عليه الحجاج بن يوسف برجلين من رفاقه في اليمامة فقيداه وحملاه إلى العراق. أختار لكم هذه الأبيات:
تأوبني، فبت لها كنيعا
هموم لا تفارقني، حواني
هي العواد، لا عواد قومي
أطلن عيادتي في ذا المكان
إذا ما قلت قد أجلين عني
ثنى ريعانهن علي ثانِ
فإن مقر منزلهن قلبي
فقد أنفهنه، فالقلب آن
انتهى النقل
يصف جحدر حاله في ركن الزنزانة المظلمة لاماً ركبتيه وذراعيه إلى صدره (مكنعاً)، تتأوبه الهموم فتلازمه ولا تتركه، تعشقه وتحن عليه وتهواه فتحتضنه وتطوقه، تعوده وتلازمه أكثر مما يعوده قومه في السجن، حتى أصبح قلبه خاويا ً إلأ منهن، فهو لهن المقر والمنزل.
وللتوضيح في الدارجة عند أهل القصيم الرجل المكنع هو الملموم على نفسه، إما متربصا ً أو خائفا ً أو مهموماً.
أما الشاعر الشعبي بديوي الوقداني فيصف جملاً حراً عليه نجاب ينقل رسالة من الجوف إلى مكة المكرمة:
يا راكب اللي ياخذ الحزم مواج
مواج بر ّْ، وتاه في الغبتيني
يوم استشد الريح ترميه الأمواج
أمواج بحر(ن) يضرب الجالتيني
محنوني(ن) كالقوس، منعاج منعاج
مثل الهلال اللي ولد ليلتيني
وإلا كما سرحان مع فج الأفجاج
وإلا الغزال اللي سمع رميتيني
حر(ن) ليا ما شاف ظل العصا ماج
راعيه ما يقدر يمد اليديني
انتهى النقل
الجمل يشق البر الفسيح ضد اصطفاق الريح، مثل قارب في بحر متلاطم الأمواج، حانيا ً عنقه من منبت الجذع وحانيا ً رأسه من منبت العنق، فهو كقوس الهلال الذي ولد قبل ليلتين فقط، مهرفا ً كالذئب الجائع (سرحان) في الصحراء المفتوحة، أو كالغزال الشارد بعد أن سمع طلقتي رصاص من بعيد. الجمل نجيب حر لا يطيق الضرب، فما أن يرى ظل العصا حتى يموج عنه فلا يستطيع الراكب إلا التشبث وإلا سقط على الأرض.
قد يصعب على البعض من القراء تفكيك قصيدة جحدر الفصيحة وقصيدة بديوي الوقداني الشعبية، وذلك مما يؤسف له لأن البديل المطروح حاليا ً لا دسم فيه ولا طعم، تماما ً مثل الوجبات السريعة في أسواق اليوم.