محمد أبا الخيل
مع انتشار استخدام الشبكة العالمية (internet)، وتزايد شبكات التواصل الاجتماعي التي تستخدم الشبكة، أصبح التواصل بين الناس على صور عدة، منها التواصل البيني المباشر أو الإرسال المباشر، وقد يأخذ ذلك هيئات عدة: أما نصية أو صوتية أو مرئية. هذا الواقع التقني أثَّر في الطريقة التي يتفاعل ويتعامل بها الناس بين بعضهم، كما فتح آفاق المعرفة لطبيعة الناس والمجتمعات، وأصبح الفرد في أي مجتمع اليوم على علم بما يختلف فيه عن باقي المجتمعات المحيطة أو البعيدة في الفكر والعقيدة والمفاهيم. هذه المعرفة لم تكن معرفة مجردة من التأثير والتأثر؛ فتكوّن لدى ذلك الفرد مشاعر جديدة، وتوجهات نحو غيره، لم تكن لتتبلور في مواقف تعاملية بدون ذلك التبادل المحموم أحيانًا للمعارف والنقاشات والجدال. هذه المواقف التعاملية إما أن تكون سلبية وعدائية أحيانًا، أو توافقية حميمة أحيانًا أخرى. وفي هذا الفضاء السيبراني من التواصل الاجتماعي تكونت فِرق وأحزاب، وبُنيت جماعات تخطت الحدود الاجتماعية والجيوسياسية، وأصبحت تدور حول محاور فكرية أو عقيدية أو أدبية وفنية، وأحيانًا توجهات نحو آفاق جديدة للممارسة الحياتية، كحماية البيئة والصراع مع المدنية المادية في جانب، وفي جانب آخر العرقية والعنصرية والكراهية للمختلف.
في العام (1994م) ظهر كتاب المفارقة العالمية (Global Paradox) للكاتب والمفكر (جون نسبي). هذا الكتاب تضمن تصور الكاتب حول ما حدث في دول البلقان من صراع بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وانهيار الوحدة اليوغسلافية، والصراع الدموي الذي نشب بين بعض مكونات المجتمع السلافي (المجتمعات التي تتحدث اللغات السلافية) حول محاور الدين والعرق واللغة. واعتبر الكاتب أن ما حدث من كراهية متبادلة وعنف وحرب وضغائن تحولت لمذابح هو نتيجة لتنامي المعرفة لدى تلك المجتمعات حول مظاهر الخلاف بينها، التي لم تكن حقيقة في كثير منها، وعدم قدرة تلك المجتمعات على تجاوز تلك الخلافات والتعامل بمعايير المصالح المتشابكة بينهم، التي لم يكن هناك سبيل لحلها دون الصراع أو التحاور والاتفاق؛ فكان الصراع هو الأقرب نتيجة تأثير المعرفة السلبية، التي أججت العداوات المتبادلة. في ذلك الكتاب خلص المؤلف إلى تأسيس نظرية اجتماعية، عُرفت فيما بعد بـ(نظرية المفارقات العالمية)، التي نصها «في المجتمعات غير المتجانسة، ونتيجة للمعرفة السلبية المتداولة عن بعضها البعض، تتمحور مكونات تلك المجتمعات حول الدين واللغة والعرق لتكوين حماية ذاتية، وعندما تشعر بعدم كفاية تلك الحماية تنزع للعداء والعنف مع المكون الآخر المختلف في المجتمع، وقد يتطور ذلك لمذابح مؤلمة، لا تحسم تلك الخلافات بقدر ما تخلق تصورًا جديدًا، يقوم على التعايش مع قبول الخلاف حول محور المصالح المشتركة والقيم الإنسانية».
الواقع الذي تخلقه الشبكات الاجتماعية الإلكترونية هو واقع اجتماعي غير متجانس، تظهر فيه مظاهر تتفق مع ما عبّرت عنه (نظرية المفارقات العالمية). الشيء المختلف بين واقع الشبكات الاجتماعية الافتراضي والواقع الفعلي الذي تتحدث عنه النظرية هو عدم وجود مصالح متشابكة تستلزم التعامل بين مكونات الفضاء الافتراضي، وهذا ربما يكون جيدًا؛ حتى لا يتطور الخلاف لعنف مؤلم. ولكن مع ذلك فكثير من المؤثرين في الشبكات الاجتماعية هم أناس حقيقيون، لهم جماهير حقيقية في الواقع، وما يحدث في الشبكات الاجتماعية هو ممارسة للخلاف بين تلك الشخصيات، التي بدورها تقود مكونات اجتماعية حقيقية، بينها وبين البعض مصالح شائكة ومشتركة على أرض الواقع؛ لذا فخطر نمو فكرها لتكوين مشاعر عدائية وبغضاء للآخر ربما يتسرب من الفضاء الافتراضي لأرض الواقع. وهنا تكمن خطورة تأثير شبكات التواصل الاجتماعي؛ فهي بقدر ما توفر من فرصة للتبادل المعرفي الإيجابي توفر فرصة لخلق معارف سلبية وتوجهات عدائية.. وهذا حاصل الآن؛ فهناك كثير من المواد التي توضع في وسائل التواصل الاجتماعي هي مواد مفبركة ومكذوبة ومخرجة بطرق فنية؛ لتبدو حقيقية؛ وذلك بهدف تكوين مشاعر خاضعة لأدلجة فكرية، الهدف منها هو تأجيج مشاعر العداء لمكونات اجتماعية، تتعايش مع بعضها في المدينة أو الدولة الواحدة.
نحن في بلادنا لدينا حظ كبير من التعايش الحميم، ولدينا حظ آخر من عدم التجانس بين بعض مكونات المجتمع، وربما أن حظنا الأكبر هو أن المكون الأكبر في المجتمع راغب وفاعل في احتواء الخلاف مع المكونات الأصغر، وتلك المكونات الأصغر مدركة وراغبة في ذلك الاحتواء، ولكن علينا أيضًا أن نتنبه إلى أن ذلك لا يكفي لنطمئن، بل علينا أن نرفع ثقافة الوعي بخطورة ما يحاك لمجتمعنا وبلادنا من الأعداء الظاهرين في الخارج، والأعداء الباطنين في الداخل، وندرك أن كل من يؤجج العداء المتبادل هو عدو للجميع مهما كانت هيئته أو صفته أو علمه ومكانته بين الناس.
اللهم احمِ بلادنا مما يكاد لها، واجعلها روضة أمن وسلم وإشعاع حضارة ونور معرفة.