سلمان بن محمد العُمري
لا يخلو أي مجتمع صغيراً كان أم كبيراً من وجود خلاف أو اختلاف بين أعضائه وحتى البيت الواحد قد يحدث فيه ما يفضي -نسأل الله العافية- إلى الفرقة والافتراق، ومع وجود الخلاف أو الاختلاف، وقبل أن تستفحل الأمور ينبري بعض العقلاء من الناصحين والمحبين للخير للغير إلى إصلاح ذات البين والعمل على عودة الصفاء بين المتخالفين ليعودوا إلى ما كانوا عليه من المحبة والود، وهذا السعي إلى الخير في الإصلاح بين الناس والعمل على ترابطهم وتآلفهم مما جاءت به الشريعة الإسلامية وجوباً وندباً، لأنها نهت عن التفرق والاختلاف والضغينة والشحناء والقطيعة والبغضاء ودعت إلى التعاون على البر والتقوى وصلة الأرحام والإحسان إلى الناس، ومن يبذل جهده وسعيه في نبذ القطيعة وعودة التواصل لاشك أنه مأجور على هذا العمل الطيّب المبارك.
قد يعتري الإنسان غفلة وسهو أو موجة غضب فيحدث منه ما يحدث من قول أو فعل مسيء ينتج عنه الخلاف والقطيعة، ثم يسعى بعض شياطين الإنس والجن إلى تأجيج الخلافات وزيادة البعد والقطيعة لدى الطرف الآخر وقد ينقل للطرفين ما يضايقهما ويؤذيهما فيزيد من الضغائن والخصومات ويؤجج الأحقاد والعداوات ويسهم في شق الصف وقطع اللحمة وعدم التآلف بين الأخ وأخيه والزوج وزوجته والجار وجاره والصديق وصديقه، ويكون سبباً في القطيعة والخصومة وهذا من دأب الشيطان الذي لا ييأس من التحريش، ويزين للمعتدي قوله وفعله ويحرض المعتدي عليه بالانتصار لنفسه وعدم العفو وقد يثير بينهما ما لا تحمد عقباه.
ومما أمر الله به عزّ وجلّ عباده المؤمنين الإصلاح بين الناس فقال عز من قائل سبحانه: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}، وقال تعالى {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإصلاح بين الناس أفضل من تطوع الصيام والصلاة والصدقة فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة".
وهناك ممن وفقهم الله لعمل الخير والحرص على إصلاح ذات البين والحث على نبذ الفرقة والخلاف وصلة الأرحام، وإزالة وإذابة ما في النفوس من الضغينة والحرص على تآلف القلوب وإطفاء نار الخصومة والبعد عن الشحناء والتباغض وربما بذل من وقته وحاله ووجاهته لهذا الغرض ابتغاء للأجر والمثوبة، وقد يغرم من ماله في سبيل الإصلاح مع ما يبذله من جهد، وشتان بينه وبين من يذكي الخصومة والخلاف ويزيد في إشعال نارها من خلال نقل الكلام الصحيح أو المكذوب بقصد إيجاد الضغينة وزيادة ثورة الغضب بين المتخاصمين.
ومن فضل الله أنه كما يوجد الخلاف والقطيعة في كل مجتمع وقبيلة فإن هذه التجمعات لا تخلو من العقلاء الناصحين المصلحين الذين يبذلون جهدهم في التوفيق بين الناس وإزالة أسباب الخصومات وإذابة الخلافات، وما ينطبق على هؤلاء ينطبق على المجتمعات الأخرى كدوائر العمل أو بين الجيران، ومن يعمل في الإصلاح أو يريد أن يتصدى لهذه المهمة لا يتصور أنها هينة لينة ففيه مشقة وعناء وقد يبذل من ماله وجهده الشيء الكثير وقد يطوله من الأذى والإساءة من أحد الطرفين المتخاصمين أو كلاهما, وقد يتهم بالمحاباة أو الإساءة من الآخرين بأنه يريد الجاه وهناك من يصفه بالتدخل فيما لا يعنيه أو أنه يشغل نفسه فيما لا دخل له به فعليه أن يصبر ويحتسب وربما هذا من عظيم الأجر له ولا ينتظر ثناء الناس وشكرهم، وعلى المصلح دائماَ ألا يجعل نفسه مكان القاضي إذا ما أراد لمبتغاه ومسعاه النجاح فليبذل نفسه للصلح والإصلاح وليس لتبرئه أحد وتخطئة آخر وأن يتحرى العدل والإنصاف وتذكير الناس بما عند الله وفضل العفو والصفح ولو احتاج لتطييب خاطر الطرفين بنقل ما يسرهما من الكلام الطيب والثناء بما يزيل التنافر والشحناء ويحذرهما من مغبة التنازع والخصومة وخاصة بين ذوي القربى من أزواج وإخوان وأبناء عمومه وأن يوصيهما بتقوى الله عز وجل والتغلب على هوى النفس وشياطين الجن والإنس.
ومن المظاهر الإيجابية ما نراه الآن من جهود للعديد من إمارات المناطق في رعاية لجان أهلية لإصلاح ذات البين تتولى المساهمة في حل الأزمات والمشكلات التي تقع بين الأفراد والجماعات وسعيها للإصلاح وتقريب وجهات النظر ويقوم على شأنها مجموعة من المصلحين الناصحين المخلصين الذين أسهموا في الإصلاح بين الناس، وأتمنى أن تقوم جمعيات خيرية كثيرة ليس في المناطق فحسب بل حتى في المحافظات، كما أتمنى أن يكون في كل محكمة من المحاكم مكاتب للصلح تتولى التواصل مع أطراف التخاصم من أزواج أو أصحاب حقوق والسعي للإصلاح بين الطرفين قبل النظر في القضايا أمام القاضي.