د. عبدالحق عزوزي
رأينا الأسبوع الماضي أوجه السياسة التجارية الخارجية المقبلة للولايات المتحدة الأمريكية في ظل وصول ترامب إلى كرسي البيت الأبيض، وسنرى في هاته المقالة تأثير سياسته الخارجية المقبلة على مكونات النظام العالمي. فحسب تصريحاته المتتالية منذ سنة، ونوع التعيينات التي قام بها في محيطه المباشر، يمكن أن نقول إن الرئيس الأمريكي أقل اكتراثا بحلفاء أمريكا التقليديين مثل زعماء دول الناتو أو اليابان وكوريا الجنوبية، الذين يتهمهم بالركوب على ظهر الولايات المتحدة الأمريكية والتطفل على هبتها بل وقوتها. وهذا يمكن أن يفهم منه أن دعمه لهؤلاء سيكون مشروطا بإعادة التفاوض على الترتيبات القائمة حاليا والخاصة بالتحمل المشترك للأعباء والتكاليف. ويكتب في هذا الجانب المنظر الأمريكي فرانسيس فوكوياما في إطار تحذيره من مواقف ترامب: «كان نظام التجارة والاستثمار المفتوح يعتمد في بقائه واستمراره - تقليديا - على قوة الولايات المتحدة الأمريكية وعلى نفوذها المهيمن، ولكن إذا ما بدأت الولايات المتحدة بالتصرف بشكل أحادي لتغيير شروط الاتفاقيات المبرمة بينها وبين الدول الأخرى فلن يتورع كثير من اللاعبين الأقوياء حول العالم عن الانتقام مما سيشعل شرارة انهيار اقتصادي شبيه بذلك الذي وقع في ثلاثينيات القرن العشرين». وحذر من موقف ترامب تجاه روسيا، مبينا أنه لم يصدر منه أي موقف ينتقد فيه بوتين، «هذا بالإضافة إلى ما ذكره من أن استيلاء بوتين على شبه جزيرة القرم ربما كان مبرراً. وأخذاً بالاعتبار جهله العام بمعظم جوانب السياسة الخارجية».
كانت للولايات المتحدة الأمريكية في المائة سنة الأخيرة دور كبير في النظام العالمي، إن لم نقل كانت هي التي تحدد معالمه وتؤثر فيه بالدرجة التي تحقق به مصالحها ومصالح حلفائها...وللوصول إلى دور دركي العالم لا يمكن لهذا البلد مهما بلغت درجة قوته العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية أن يشتغل لوحده، إذ لابد من تواجد حلفاء يعتمد عليهم، ومن مؤسسات دولية تنقل المعطيات والتوجيهات الإستراتيجية النظرية إلى قرارات وهكذا دواليك...
فهاته القاعدة هي التي جعلت من الحلف الأطلسي مثلا مؤسسة عسكرية قائمة الذات وذات بعد ردعي وتدخلي يضرب له ألف حسبان، وهي التي جعلت من معاهدة الشمال الأطلسي التي كانت وراء إلزام الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وعشر دول أوروبية اعتبار أن أي هجوم على أي دولة منها هو هجوم عليها جميعا... كما أن هذا الدور هو الذي مكن دولا مثل الاتحاد الأوروبي من تقوية مؤسساته في مواجهة الجارة الروسية.
النظام العالمي ليس عبارة عن ألبسة يمكن لأكبر فاعل دولي فيه أن يغيرها متى شاء وكيفما شاء... صحيح أنه يعاني من أزمات بنيوية ومن تصاعد تأثيرات العولمة على مكوناته، وأنه يحتاج إلى حقن جديدة... ولكن الذي نراه هو أن هاته الحقن التي يريد ترامب ضخها فيه هي حقن مملوءة بالفيروسات المهلكة، حيث سيخرج من هذا النظام كل من يريد أن يبقي في صحة وعافية ولكن بعد أن يكون قد تنفس بعضا من الفيروسات التي ضخت في المجال العام لهذا النظام...
كل الاستراتيجيين الذين قاموا بتحليل خطاب الرئيس الأمريكي عند تنصيبه الجمعة الماضية، يرون أن استراتيجية ترامب القائمة على «أمريكا أولا» خطأ ومصيبة كبيرة على أمريكا والحلفاء، وهي تتعارض مع القيم الاستراتيجية المشتركة التي جمعت كل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية في المائة سنة الأخيرة، وبمعنى آخر فإن الرؤية التقليدية لأمريكا عن العالم سيحدث فيها زلزال مدو ، كما أن هذا الانكماش الإستراتيجي والتغيير التكتيكي سيغير الكثير من الأمور في علاقات الدول بشعوبها، إذ ستصل لا محالة أحزاب قومية يمينية في العديد من الدول الأوروبية، وستقوى الأنانية الاقتصادية والاجتماعية للدول انطلاقا من مبدإ «عليكم أنفسكم»، كما أن قيم الحرية والكرامة والانفتاح ستتبخر في العديد من الأمصار خاصة تلك التي يوجد المجال السياسي العام فيها على شفا جرف هار، ينتظر أي مؤشر لينهار بالدولة في غيابات المجهول والفوضى المخزية..
قطع الرئيس الأمريكي على نفسه وعودا كبيرة في حملته الانتخابية التي من أجلها صوت عليه الأمريكيون، وهو رجل أعمال كبير يعي مفهوم الوعود والوفاء بالعهود، ولا أخاله سيقوض معالم تصوره لأمريكا وللعالم، فبمجرد أن دخل البيت الأبيض، وقع على قرار الانسحاب من اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ،» أو ما يُعرف اختصارا باتفاقية «TTP التزاما منه بالوعود التي أطلقها خلال حملته الانتخابية، حيث تعهد بإيجاد اتفاقيات تجارية أكثر عدلا بالنسبة للعمال الأمريكيين.
وأنا على يقين أنه تكفي إشارتين محددتين في السياسة الخارجية الجديدة لأمريكا لتتبنى العديد من دول العالم مبدأ «عليكم أنفسكم» كركيزة أساسية في الحكم وفي تعاملها مع الآخر أيا كان.