عبدالعزيز السماري
يردد بعض الصحويين مقولات لشيخ الإسلام ابن تيمية مفادها أن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقاً لا يباح بحال، وقال أيضاً: «وأمورُ الناس تستقيمُ في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراكُ في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيمُ مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم».
ولهذا قيل: إن الله يقيمُ الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، وبرغم من ترديد هذه المقولة تكراراً، إلا أن الخطاب الديني يكابر في خطابه العام، ويصعد في مواجهة الأعداء في مختلف الاتجاهات، برغم من التخلف الكبير الذي يعاني منه في فلسفة الحياة والعدل.
تأتي عادة هذه المقولات حين يكون أحدهم في موقع يعتقد أن فيه ظلم لحقوقه، وهو ما يجعل من ترديدهم لتلك المقولات ليست مشروطة بالإيمان الحقيقي بالحقوق المتساوية للجميع مهما أختلف سلوكهم أو درجات إيمانهم، ولكن من أجل خدمة أغراض فئوية..
لهذا علمتنا التجارب مع أطرحاتهم عبر العقود مدى ارتباطها بالفئوية البغيضة التي نجحت في تحويل مشاعر البغضاء إلى ركن أساسي في علاقتهم مع الآخر، وذلك بيت القصيد في فساد مسألة العدل وهضم حقوق الآخر، وتبرير الأحكام الظالمة له، إما بسبب العامل الأيدولوجي، أو الموقف الفئوي من سلوكه أو لتصنيفه على أنه ليبرالي أو علماني.
العدل أن تكون أفكارك غير فئوية أو طائفية، وأن تقف مع خصموك ولو كانوا على نقطة اختلاف مع أطروحاتك الدعوية أو السياسية، ولن نحتاج إلى طرح أمثلة على ذلك، فالساحة تكتظ بأفكار التحريض والتشفي، ولعل آخرها القضية التي أشغلت الساحة الإعلامية بسبب تناقض حكمها مع مرجعية العدل التي يتشدقون بها.
العدل أن لا تكون في موقع المعزي لفقيد أحد أبناء رموزك، ولكن تكون في زمن آخر تتشفى من مصيبة الآخر الذي تختلف معه حين يفقد أقرب الناس إليه، ويختفي معيار العدل تماماً حين يستغلها ذلك الخطاب على أنها عقوبة من الله عز وجل، وهو يدرك أن ذلك في حكم الغيب الذي لا يمكن أن يجزم به.
العدل أن تقف على قدر مسافة متساوية من الجميع في قضية الحقوق، وأن لا تدير وجهك حين يكون الذي يختلف معك في مظلمة، ويحتاج إلى كلمة حق في أوقاته الصعبة.
العدل أن تؤمن أن الوطن كالأواني المستطرقة التي تتساوى فيها الحقوق والواجبات أمام القانون مهما اختلفت أحجامها، وأن لا تطالب بأفضلية فئة على أخرى أمام القضاء، ولهذا لا يمكن أن يكون هناك وطن للجميع من دون وثيقة وطنية تنص على المساواة بين مختلف أفراد الوطن الواحد، ويؤمن بها الجميع.
العدل أن تكون أفكارك منسجمة مع مسألة العدل، فالغرب الكافر يفهم العدل على أنه قوانين الطبيعة التي لا تتبدل، وأن الله عز وجل لا يقيم أمة جاهلة، تعتقد أنها بالالتزام الديني فقط ستنتصر في حروبها مع الكافر الذي يستمد قوته من تطبيق آليات العدل في مختلف نواحي الحياة سواء كانت السياسية أو العلمية أو الاجتماعية.
العدل أن لا تفرض أن الدين الخالص زي وهيئة تُفرز من خلالهما الناس، ويتم تقسيمهم إما إلى طيب أو خبيث، في حين يكون المتدين ظاهرياً هو المواطن الصالح، والآخر هو الخبيث الذي يجب أن تتقي أشراره بشتى الوسائل على طريقة الغاية تبرر الوسيلة.
العدل أن تؤمن أن العلاقة مع الله مباشرة، ولا يمكن على الإطلاق أن يتداخل خلالها إنسان، يجزم أنه صاحب التوقيع عن رب العالمين، وأنّ آراءه بمنزلة القانون الذي يتحرك ويتغير كلما شعر أنه يحتاج إلى ذلك، فالفتاوى لدى البعض - ولا أُعمم - أصبحت بمنزلة السوط الذي يجلد به المفتون الناس إذا شعروا أنهم يتمادون في حراكهم أو سلوكهم أو أفكارهم.
العدل أيضاً أن تؤمن أن النساء مخلوقات مكتملات النضج العقلي، وتتساوى مع الرجال في كثير من الحقوق العامة، ولهن حق العمل والكسب تماماً مثل الرجال، وأنهن قادرات على أداء مهامهن وواجباتهن كالرجال، وأن تكون موضع ثقة، وأن لا نبرر سوء الظن فيهن لعلة أنهن يعانين من القصور الذهني الذي يجعل منهن عرضة للاستغلال في حياتهن العامة.
العدل أن نؤمن أن الحياة عالم متغير، وكما تتبدل وتتغير فيها الجريمة، تتطور من خلالها القوانين، ولا يوجد أمة على وجه الأرض تحكم بالعدل، ولا يكون لديها باب كبير لإصلاح أنظمتها القضائية وتعديل إجراءاتها ومواكبة التطورات المتلاحقة في وعي الناس ومعرفتهم للوصول إلى جوهر العدل الذي ينادي به الإسلام، وتتبنّاه تعاليمه السمحة.