كوثر الأربش
لم يكن الطريق للحداثة مفروشًا بالورد. بل للقضية كتّابها ومنظِّروها وفرسانها وشهداؤها أيضًا. منذ الصدمة الحضارية الأولى للعرب منتصف القرن السابع عشر، عندما تنبهوا للهوة الواسعة بينهم وبين الغرب، والوعي العربي يسعى بجد لإعادة اكتشاف ذاته، النهوض من عوائقه ليتحرر من مسببات التأخر. وكان أحدها غلبة الإطار الأصولي الرافض للتعدد. معارك مضنيه خاضها الحداثيون ضد التقليديين من أجل إرساء قيمة التعدد في المجتمعات، أحقية الاختلاف والوجود لكل الأطياف. اغتيالات كثيرة، صراعات مريرة نشأت، حتى صرنا اليوم نعرف التيارات الفكرية ونعددها، دون أن ندري كم من الصراعات حدثت لتصبح حية. تيار تقليدي، تيار تقدمي، تيار ليبرالي.. وهكذا. لستُ هنا مع التصنيف، لست هنا لأحكم على أي من الفئات بالصح والخطأ، ولكني أريد أن أسلط الضوء على ثراء الاختلاف، وسلامة وجود الأطياف، وأن التعدد ضرورة للتقدم. هذه هي الحداثة، هي نسق مفتوح يقبل المختلف. نشأت في البدء بين براثن الاستعمار الغربي، والوعي الديني، والشعور بالوطن، والحقوق. هي ثورة العربي ضد التراجع والقالب الواحد والقمع. تعليم المرأة، إنشاء الدساتير، الإصلاح السياسي، إنشاء الجامعات، المواطنة، حقوق الإنسان، كل تلك كانت انتصارات الحداثة. منذ القرن التاسع عشر حتى هذا اليوم.
السؤال ماذا لو انتكست الحداثة؟ ماذا لو تخلّف الحداثيون؟ التخلف بوصفه، رجوع للعنف، للإقصاء، للقالب الواحد. عودة العقل الحداثي لرفض التعدد، كما كان يفعل العقل الأصولي قديمًا. ما هذه اللخبطة!
بعض الحقوقيين مثلاً، فئة تحاول أن تصبح تيارًا، لها مواصفاتها ومتطلباتها ورسائلها وشعاراتها. الحقوقية لديهم تحولت لإيديولوجيا مغلقة، لدين، أول آياته: (الحقوق تـُنتزع ولا تُطلب)، هذه العبارة التي يقدسها هؤلاء الحقوقيون أصبحت دافعًا لكل أفعال العنف، للتعدي على الآخرين، للشتائم، لتدمير الممتلكات الخاصة، للصراخ، للأفعال الخالية من الحكمة والاتزان. اليوم إن خالفت أحدهم فأنت على جرف، وستنهال عليك «قمامتهم اللفظية». الآية الأخرى التي يقدسها هؤلاء: (وطن لا يهبنا حقوقنا لا يستحق الاحترام). فهم أعداء الوطن إذا لزم الأمر، ولا يهمهم من شأنه شيء، وعلى استعداد تام لمصافحة أعدائه، لأجل الحصول على ما يريدون. لا أريد القول أكثر. يمكنك أن تتصفح بعض الحسابات في تويتر، واجهة هذا الزمان، تعرف على أحد هؤلاء، صدقني ستميزه بسهوله.. ستعرفهم من كراهيتهم لكل مختلف، لشتمهم المختلف، عدم مبالاتهم بصالح الوطن. إنها عودة للنمط الواحد، للقالب المستبد.