عبدالعزيز السماري
جاء تقرير منظمة الشفافية الدولية، الأخير في يوم الأربعاء الماضي 25 يناير 2017، ليؤكد مرة أخرى تدهور أنظمة مكافحة الفساد في أغلب الدول العربية في عام 2016، ولم يكن يتوقع أيًا كان أن تحدث مفاجأة في الأمر، وذلك لأن الفساد تحول إلى ثقافة ووسيلة للعيش، ولتحسين دخل الفرد في كثير من المجتمعات العربية الراهنة.
تمتد جذور هذه الظاهرة من مقولة أنج سعد فقد هلك سعيد الشهيرة، وهي جملة تم استقطاعها من خطبة لزياد بن أبيه، اشتهرت بالبتراء، وذلك لأنه لم يبدأ بحمد الله والثناء عليه، وهو الأسلوب الدارج في استهلال الخطب.
كان مضمون خطبته التهديد والوعيد لمن يخالفهم أو يغالبهم في سلطانهم، وكانت إيذانًا ببدء مرحلة سياسية مختلفة عمّا قبلها، وهو ما ولد حالة من السلوك الاجتماعي على طريقة انجد سعد فقد هلك سعيد، يتسابق فيها الناس للحصول على المال والجاه بالطرق غير المشروعة.
من خلال هذه العبارة الشهيرة تبدأ محاولة فهم آليات الصراع حول الثروة في الحالة العربية، التي يتقاسمها المؤثرون في الحزب الحاكم أو في المجتمع كلٍ حسب مكانته، وإذا حدث وتناثرت بعض من فتات كيكة الفساد، ينتشر سعد وأمثاله لالتقاطها من الأرض، ويكون الحسم عادة لمن يتمتع بمكانة أقرب لجزئيات الفتات..
بناءً على هذه الصورة النمطية تتطور العلاقات الاجتماعية لتبني شبكة متواصلة ومتجانسة من دوائر الفساد الإداري والمالي المتداخلة، هدفها الأساسي النجاة من خلال رفع الرصيد المالي بأسرع طريقة، وذلك خوفًا من المستقبل السياسي غير المضمون للبلاد.
فبعض الدول العربية في حقيقة الأمر غير مستقرة سياسيًا على الإطلاق، والجميع في حالة سباق للحصول على فتات كيكة الفساد العملاقة، وتعود الأسباب إلى تخلف المجتمعات وانتشار الأمية المعرفية، وتدهور الأخلاق وغياب سيادة مظلة القانون على الجميع.
العامل الأهم في نشاط الفساد المالي هو علاقة الفساد بالقانون والقضاء، وتجاوزه لسيادة القانون في كثير من الأحيان، إِذ يستحيل أن يرفع أيًا كان قضية لفساد المسؤول أمام القضاء في بعض الدول العربية، وغالبًا ما تهمل أو تحفظ مثل هذه القضايا لعدم التخصص.
اجتماعيًا برزت ثقافة عربية جديدة، وهي مهارات الاتصال بالشخص المناسب، ثم العمل على نيل ثقته، وبالتالي الدخول إلى دائرة الأمان حوله، وهي مهارة تتطلب قدرات مختلفة، من أشهرها أن يجيد الشخص لفت نظر المسؤول الأهم من خلال الإعلام..
لكن الطريقة الأشهر والأكثر أمانًا هي طريقة التسلق على أكتاف الآخرين، أو التعلق بأقدام الشخص الأقرب ثم الأقرب إلى أن يصل إلى السلم الاجتماعي، ثم الصعود بعد ذلك إلى أعلى بحثًا عن قارب النجاة المزعوم.
لهذه الأسباب تعيش بعض الدول العربية في حالة من القلق السياسي والتوتر الاجتماعي، وهو ما يجعل من عدم الاستقرار عاملاً رئيسًا لانتشار ثقافة الفساد، وقد تعلمنا من التاريخ أن الوطن الآمن هو الملجأ الدافئ لأبنائه، ومهما حاول البعض اختزال مفهوم النجاة في جمع أكبر رصيد من الثروة غير المشروعة، فهم واهمون، لأن النجاة الحقيقية تكمن في النجاح في بناء وطن للجميع يتمتع بالشفافية المالية وفصل السلطات ويتميز بالاستقرار السياسي..