كنت أتابع -صدفة- على إحدى القنوات الفضائية وصلة غنائية لسيدة الطرب العربي كوكب الشرق، وفجأة ارتجل عازف الناي الشهير سيد سالم عزفاً منفرداً أطرب الجمهور الغفير، فما كان من أم كلثوم وفي تصرف عفوي إلا أن قالت: (إيه ده)، إعجاباً بالعازف الجميل وبعمله الذي هز السيدة قبل أن يتمكن من مشاعر الحضور وإعجابهم منتزعاً آهاتهم وأشجانهم.
هذا العازف خرج عن النص المكتوب ولكنه كان خروجاً إبداعياً أضاف إلى العمل ولم ينقصه أو يشوهه، وفي الوقت نفسه فإن السيدة المحكومة سلفاً بانضباطيتها العالية وهيبتها المتعالية، قد أقرت العازف على فعله وحيته بتحية إبداعية ما زالت تسجل للمناسبة وللسيدة وحضورهما الفني الفريد.
تساءلت بعدها ألا يمكن للعمل الإداري في المنظومات المختلفة أن يصل إلى هذا المستوى من الانسجام بين القائد وموظفيه؟
الواقع يعكس مأساة مريرة في مؤسساتنا الإدارية، فظاهرة سيطرة الكورال على مشهدنا العملي أصبحت ملحوظة ومشاهدة.. الكورال -لمن لا يعرفه-، هو ذلك الفريق الخلفي الذي يقوم بترديد مذهب الأغنية الطربية، وذلك بعد أن يؤديه المغني، وهكذا يستمر الكورال المصاحب يردد هذا المذهب حتى تنتهي الأغنية.
وفي عالمنا الإداري يستلم الكورال وهم كما تعرفهم الشواهد والإخفاقات الحية في المنظومات والمؤسسات: بأنهم النهاية الطرفية للعمل المؤسساتي، وهم في رواية أخرى رويبضة المرحلة الذين يمثلون البطالة المقنعة بكل تجلياتها ومفاهيمها.
هذه الفئة الكورال قد تتسيد المشهد الإداري، كل إمكاناتها لا تتخطى ترديد المذاهب الإدارية التقليدية والفرمانات الجديدة، بعدها وفي غمضة عين يصبح الفرد فيها جوقة موسيقية مستقلة، لها موشحاتها وطربها وأغانيها ونوتتها وسلمها الموسيقي، مساحة تأثير هذا الكورالي الفرد تزيد تبعاً لارتفاع حجم همسه في الغرف المغلقة، ومؤامراته التي يكيدها للناجحين في المنظومة.
الأيمان المغلظة بالطلاق وغيرها هي الحصانة التي يسيج بها نفسه ليدرأ عنها المساءلات النظامية والأخلاقية.
إنتاجيته معدومة ولكن حضوره الظلامي يتنامى في ظل ارتباطه بشبكات الهدم ومراكز الإخفاق في المنظومة التي تحتضن -قدرا وحكما- هذا النوع من الكوادر المريضة والهدامة.
الكورالي شخصية انهزامية لا يجيد شيئاً يشفع له بالبقاء في المنظومة، يحسب على البطالة بنوعيها الصريحة والمقنعة، لكن مواهبه الظلامية تشفع له بالبقاء عضواً هداماً، فقانون من أين تؤكل الكتف يعرفه ويتقنه لغة واصطلاحاً، والدليل هو انتسابه لمنظومة عمل إنتاجيته فيها لا تصل إلى الصفر، إن لم تنحدر إلى مستويات دنيا من الكارثية والسلبية.
الكورالي في أدائه، سماعي بالفطرة الشيطانية، أذنه النمامة تستقطب النشاز من الأقوال والأفعال، وبعد إعادة تدويرها في مرمى نفاياته القذرة يخرج إلى المنظومة منتجاً رخيصاً منزوع الأخلاق والقيم، يوزع مجاناً ولا يباع على فقراء الأخلاق والانضباط والأدب.
الغريب أن هذه الفئة من العاملين في المنظومات يتوارون خلف الكبار، لا يعشقون الأضواء ولا يطمعون في الكراسي لعلمهم المسبق أن كفاءتهم تقف ممانعة وعائقاً أمام أي طموح في سلم الوظيفة العام أو الخاص، إضافة إلى أن مكاسبهم المادية والمعنوية لن تتحقق إلا من خلال تموضعهم في الصفوف الوسطى بعيدين عن المقدمة وصخبها مردوفين بالمؤخرة المغلوبة على أمرها.
حالة من الزهد العجيب تتغشاهم وتغشي أبصار الآخرين عنهم.
الكورالي في أدائه العملي ملتزم بكل إيقاع نشاز يضاد النظام والعرف والأخلاق، هو وأمثاله ينسجمون ويطربون لألحانهم وحراكاتهم العملية داخل المنظومات لأنها تمثل نسقهم هوية وهواية.
عودة إلى سيد سالم ونايه الشجي وخروجه الإبداعي على النص أتساءل وإياكم.. ترى لو قدر لكورالي في تظاهرة إنتاجية عربية في بيئة عمل قصية أن يخرج على لحن لجوقة، أيستطيع أن يشنف الآذان بفاصل إبداعي يؤكد جدارته بالتفرد والخروج والإبداع؟ أم أن القاعدة المتوارثة عن سلوك هذه الفئة -فئة الكورال- ستظل هي السائدة، خصوصاً أن أفرادها ما زالوا يمثلون النشاز في منظوماتنا العملية صوتاً وصورة وأداء وصدى؟
- علي المطوع