فيصل أكرم
كيف أكتبُ الشِعرَ بلا تجربة؟ ليس هذا السؤال، وإنما: كيف لا أوفي بحقوق تجربتي وقد صارت ذاكرة تتحقق بي؟ كيف أتغاضى عن تعبي وقد صار فاتحة لتحقيق أمنيتي؟ كيف أخطئ في تشكيل كلمات أغنيتي وقد عزفتُ حياتي لحناً لها؟!
فتّحتُ عينيّ منذ عقود على مشهد ثقافيّ أدبيّ يتمركز الشعرُ في أعلى أقواسه، قمّته الشعر القيّم ومنخفضاته انحناءات القيمة الشعرية بحسب أدوات الشاعر وغاياته، ثم.. ويا لها من ثُم. فجاءة ذابلة غفونا عليها من بعد صحوٍ يانعٍ.. قيل: انتهى زمنُ الشعر. لماذا؟ وكيف؟ وهل لوفاة نزار والجواهري ودرويش دورٌ في النهاية التعسفية؟ قيل: بل ثمة أداور لبنات الرياض ووليمة لأعشاب البحر وذاكرة الجسد!
مُذ عرفنا المكتبات وهي تخصص للشعر المكان الأرحب، ويليه في الرحابة مكانُ الثقافة والآداب -بالمجمل- ومن ضمنه أماكن الروايات والحكايات والخواطر.. ماذا حدث الآن؟ فجأة قررت المكتبات -وأعني المكتبات التجارية التي تعرض الكتب وتبيعها للجمهور، لا المكتبات المؤسساتية الرسمية- في كل مكان ومختلف البلدان، وكأنّ رابطاً تتمسّك به يوحّد قراراتها: لا مكان للشعر. هنا مساحات كلها مخصصة لكل (يقولون لكلّ!) أطياف الكتب الثقافية الأدبية: روايات سياسية، روايات عاطفية، روايات خواطرية، روايات بوحية، روايات فضائحية، روايات شتائمية.. إلخ.. من الروايات! والشعر؟ قالوا: انتهى زمنُ الشعر.
أقول بإيمانٍ لا ينقصه القَسَم: لم ولن أعترف بشعر يموت بموت منشديه ويضحّي بمن أفنوا حيواتهم في كتابته. إذا كان المنشدُ شاعراً والكاتبُ شاعراً فمن الظلم أن يستحوذ الأول على النصيبين كاملين من حصة الشعر بين المتلقين من مشاهدين مستمعين وقرّاء متصفحين. ربما هذا ليس من الظلم الواقع إنما هو الظلم المسحوب بأسباب الوهن والاتكال وضرب الذكر صفحاً في حالة من ذهول وحسبان.
وفي خضمّ جهود فردية ذاتية أكابد معاناتها وتبعاتها وحدي، أقول وقد عقدتُ العزم وقطعتُ مسافة لا بأس بها من الطريق في وقت لم يكن قصيراً كما توقعت: سيكون، بإذن الله، الجواب المناسب عن كل تلك المظلمة التي وقعت على الشعر العربي واتخذها الدخلاء عليه جسراً إلى منابر كثيرة تكرّس المفهوم -غير المقنع- بأن الشعر صراخٌ وتعابير جسمانية ونبرات أصوات تخشوشن وتتنعّم -وتترخّم!- بحسب الحالة البهلوانية التي أخرجت الشعر عن مكانته الراسخة بين أهمّ الكتب في معارض المكتبات.. أقول الجواب (مكتبة الشعر العربي) تأخذ موقعها في عاصمة عربية، وقد تتوسع فروعها في عدد من العواصم والمدن إن طال بصاحبها العمر وأكرمه الله بما يكفي التضحية المتممة للخطوات في هذا السبيل.
وفي (مكتبة الشعر العربي) حين يكون اسمها بلا إضافات وغير مقرون بأسماء تجّار أرادوا فرضَ أسمائهم كشعراء ثمناً لما يعتبرونه مكرمة(!) ستكون المساحة كلها للشعر.. الشعر العربي فقط، فلا الشعر المترجم فَقَدَ مكانه في المكتبات الأخرى ولا غير الشعر العربي فَقَدَ المكان.. هل الخيول الأصيلة تخسر الرّهان وفوق ظهورها أمهرُ الفرسان؟ فلتكن (مكتبة الشعر العربي) للشعر العربي فقط، منذ عصور ما قبل المعلقات حتى أجيال ما بعد الحداثات؛ ولو لم تكن أكثر من لافتة تؤكّد أولوية الشعر بالمكتبة.. كلّ المكتبة.
هو حلمٌ قديمٌ وطموحٌ أخير لم أكن أجرؤ على الكلام عنه لولا أنني بدأتُ الخطوة الأولى في هذه الأيام بامتلاك الموقع الذي أحسبه سيكون مناسباً بعد برهةٍ قد تساوي طرفة عين، حيث أقيم الآن في مصر، كبداية تتلوها توسّعات إن أراد الله لها أن تتحقق من أجل الشعر الذي لم أعرف الانتماء إلاّ إليه.